إفتتاحية قاسيون 595 : ... وحان قطافها!

إفتتاحية قاسيون 595 : ... وحان قطافها!

تتأكد في كل يوم، ومع نزيف كل قطرة دم سورية، حقيقة أن الخروج الآمن من الأزمة الوطنية العميقة يتعارض تماماً مع مصلحة الفاسدين الكبار في جهاز الدولة وفي المجتمع، وهؤلاء إن كانوا ممهداً أساسياً للأزمة الراهنة من خلال نهبهم المتواصل لمقدرات البلد ولتعب السوريين، ومن خلال سطوتهم وتغولهم وكمهم أفواه المواطنين طوال عقود

فإنهم إلى جانب ذلك وفي كثير من تفاصيل الحدث السوري الحالي ضالعون بأشكال مباشرة وغير مباشرة في هذا النزيف، وفي مختلف أشكال التوتير المستمر، اقتصادياً وطائفياً وأمنياً. وهؤلاء باتوا يخوضون «معركة وجود» بكل ما للكلمة من معنى، مع اقتراب الاستحقاقات الجدية للأزمة ومخارجها الحقيقية بما تعنيه من ضيق المخارج أمامهم.

فإذا كان شن معركة مفتوحة ضد الفساد ضرورة دائمة من وجهة النظر الاقتصادية والسياسية وبالتالي الوطنية، ومطلباً ملحاً ثابتاً للشعب المنهوب، وإذا كان ما عطل فتح هذه المعركة طوال عقدين على الأقل هو غياب صوت الشارع وتمثيله السياسي وانخفاض مستوى الحريات السياسية إلى حد كبير، وإذا كان السوريون قد رفعوا سقف الحريات اليوم بدمائهم ونضالاتهم، فإن فتح المعركة مع الفساد قد غدا ليس مجرد ضرورة نظرية فحسب، بل إمكانية واقعية ينبغي تفعيلها وتحقيقها الآن.

إن المهمة الوطنية الكبرى الملقاة على عاتق السوريين حالياً، تتلخص بتسريع الذهاب إلى الحل السياسي وإلى المصالحة الوطنية وعزل وكسر جميع الأطراف المتشددة التي تعيق هذه العملية بأدوات مختلفة تمتد من «التشبيح» إلى «التدبيح» وما بينهما من أدوات إعلام، خارجي وخاص أو شبه رسمي، ومن سرقات وتعديات على حياة الناس وكراماتهم، إلى العديد من أدوات وطرق التوتير والتأزيم. وفي المقابل فإن إسهام قوى الفساد في إعاقة تلك المهمة أصبح واضحاً وجلياً، وخاصةً من تلك التي تتلطى داخل جهاز الدولة، ولا تتوقف عن توجيه الطعنات للشعب السوري والحل السياسي على حد سواء.

إن حالة الاستنزاف المستمرة التي تعيشها سورية على المستويات جميعها وخاصةً البشرية والاقتصادية وضرورة حماية الدولة من التفتت، تجعل الحاجة إلى موارد حقيقية لخزينة الدولة مسألة بعيدة كل البعد عن الترف، لتصبح مسألة حياة أو موت، وتحديداً إذا وضعنا في الاعتبار ليس الحاجات المعيشية اليومية للناس بحدها الأدنى فحسب، وإنما أيضاً حاجات إعادة إعمار البلد. وإن لموارد إعادة الإعمار هذه مصدرين لا ثالث لهما: فإما الاقتراض من الخارج، وما يتبع ذلك من مخاطر على السيادة الوطنية، وإما موارد داخلية موجودة بشكل أساسي في جيوب «القطط السمان» الذين ينهبون وسطياً، حسب تقديرات سابقة لعدد من الاقتصاديين السوريين، ما يصل إلى ألف مليار ليرة سورية سنوياً، أي ما يعادل ثلث الانتاج المحلي السنوي..

فإذا كان الفاسدون الكبار يعيقون الحل السياسي ويضاربون بمستقبل سورية ويسرقون ليس ثمرات «العمل السابق» للسوريين فحسب، بل ويحاولون الاستحواذ مسبقاً على نتاج «عملهم اللاحق» من خلال تقييد البلد بسلسلة لا متناهية من الأزمات، شكلها الأساسي هو الشكل الطائفي التابع، وفقاً للوصفة الأمريكية التي تشكل طريق خلاصهم الوحيد، فإن الظرف السياسي اليوم يجعل من رؤوس الفساد يانعة بالكامل للقصاص، الذي يراد منه كاستحقاق وطني وقف النهب وتحويل وارداته الكبيرة لإدارة الأزمة حالياً وإعادة الإعمار لاحقاً..

إن وصول الأزمة إلى ما وصلت إليه اليوم يجعل من فتح المعركة ضد الفساد، والانتصار عليه، والاستيلاء على موارده، طريقاً وحيداً لا يمكن لسورية أن تخرج من أزمتها إلا باتباعه، وإن لم تسلك ذلك الطريق الآن، فإنها لن تخرج أبداً من هذه الأزمة، بمعنى أنها لن تخرج موحدةً أرضاً وشعباً.

إن المعركة الوطنية التي يخوضها الشعب السوري، وفي طليعته جيشه الوطني، للحفاظ على وجوده وهويته تتماهى وتندمج كلياً مع المعركة الاقتصادية- الاجتماعية ضد الفساد، ومع المعركة الديمقراطية ضد القمع والعنف الذي يمارسه فاسدو النظام جنباً إلى جنب مع التكفيريين، والمرتبطين جميعهم بالمصلحة الأمريكية في نشوء شرق أوسط جديد قائم على المزيد من التفتت والتشرذم.