الفساد كمحرك لدوامة الفوضى
كُتب الكثير، وقيل الكثير عن الفساد والفاسدين، وعندما يكثر الكلام والمطالبات بشأن مشكلة معينة، يدلّ ذلك على أنّها ما تزال قائمة دون حلّ، بل وتزداد تعقداً، لدرجة تؤدي معها إلى ازدياد الاحتقان الاجتماعي، والذي يُعدّ تفجّره بطرق فوضوية أمراً تقع مسؤوليته المباشرة على عاتق الفاسدين الكبار وشركائهم من المسؤولين المتقاعسين عن محاسبتهم.
تشير الدراسات إلى أنّ عدد العاطلين عن العمل في سورية يزيد بمعدل ربع مليون شخص سنوياً. ويصل رقم البطالة حالياً إلى نحو (3) ملايين عاطل عن العمل، أي ما يشكل 45% من قوة العمل السورية. نسبة العاطلين عن العمل دون سن 30 عاماً، هي بحدود 52% من مجموع القوة العاملة حسب برنامج مسح قوة العمل والطلب عليها، والذي أجراه المكتب المركزي للإحصاء، وهذا الأمر ينعكس على ارتفاع معدلات العنوسة.
أمام هذا الواقع الكارثي، وأمام تعامل أجهزة الدولة المختلفة معه، بأسلوب التنصّل من المسؤولية، والتعامل مع تداعياته الاجتماعية بأسلوب القمع الأمني فقط، دون حلّ متكامل سياسي واقتصادي-اجتماعي جدّي حتى الآن، نسأل هل القمع ضرورةً وطنية؟
الجواب نعم! ولكن بشرط أن يوجَّه القمع ضدّ الأعداء الحقيقيين للشعب السوري، وللوحدة الوطنية، ألا وهم، وبكلّ وضوح، الفاسدون الذين يعششون في مفاصل المجتمع وأجهزة الدولة، سواءً المدنية منها أم غير المدنية، وكذلك ضدّ كلّ محاولات تفتيت الوحدة الوطنية أو دفع الحراك الشعبي نحو أنفاق فئوية مسدودة، وضدّ كلّ من يخلط ويضلل، عن قصد أو غير قصد، بين التظاهر السلمي وفوضى العنف، أو يحاول أن يغرق المتظاهرين سلمياً أو أبناء قوى الدولة المسلحة بدمائهم، سواءً أكان من يقترف ذلك ينتمي إلى أحد الطرفين، أو إلى أية أطراف أخرى..
إذا قام الوطنيون الشرفاء، الموجودون بلا شك في جميع تلك المواقع، بثورة لإزالة الفساد والفاسدين من مواقعهم، ومحاسبتهم، ومحاكمتهم، وباستخدام قوّة الدولة وأجهزة أمن وطنية تكون «في خدمة الشعب» حقاً، بحيث تعاد الحقوق إلى أصحابها، ألا يكون هذا هو التغيير الجذري الذي يحقق مصلحة الأغلبية الساحقة من الشعب السوري؟
ألا يشكّل تمكّن عصابات مسلّحة من ارتكاب جرائم ضدّ السوريين من جهة، وقيام البعض داخل الجهات الأمنية و«الشبيهة» بالأمنية بإطلاق النار على العزّل، من جهة أخرى، دليلاً على فساد واختراقات خطيرة على مستوى المسؤولين عن أمن الوطن والمواطن، سواءً على حدود الوطن أم داخل أراضيه؟
لماذا لا تقبض الأجهزة المعنية على الفاسدين الكبار الذين ينهبون الحصّة الكبرى من الفساد، والذي يشكّل على الأقل 30% من الناتج المحلي الإجمالي، أي نحو 700 مليار ل.س سنوياً؟ ألا يشكل هذا الحجم الكارثي من الفساد قضية أمن قومي؟!
انتهجت الدولة السورية، ولاسيما في السنوات الأخيرة من خلال حكومتها السابقة، السياسات الليبرالية الجديدة في الإصلاح الاقتصادي، والذي يمثّل المؤامرة المعروفة باسم برامج التكييف الهيكلي Systemic Adjustment Programs، أو (SAPs) اختصاراً، والموصى بها من أدوات الهيمنة الإمبريالية العالمية من صندوق نقد دولي، وبنك دولي، ومنظمة التجارة العالمية.
ولم تبد الحكومة الجديدة حتى اللحظة أية إشارة إلى تغيير في هذه السياسات، فلا دعم للمحروقات، ولا تراجع عن الخصخصة حتى الآن! ومن يتكلّم بالتغيير السياسي-الاقتصادي الجذري لمصلحة المنتجين، والذي أولى خطواته مكافحة الفاسدين الكبار، يردّ عليه بأن نتمهّل، لأنّه لم يأت وقته بعد، بحجّة مكافحة الفوضى، ولكن المشكلة أنّ هذا التغيير هو الضامن والمنقذ الوحيد من الفوضى، ومن دخول البلاد في حلقة مفرغة، ودوامة من العنف والعنف المضاد، الذي يقوم المسؤولون عنه أنّى كانوا، وسواءً أرادوا ذلك أم لم يريدوا، بتقديمه هدية للغرب الإمبريالي، مما يمكّنه من ممارسة مزيد من الضغوط والتدخل الخارجي في وطننا لانتزاع تنازلات في كافّة القضايا والمواقف الوطنية للشعب السوري، وعلى رأسها قضية جولاننا المحتل.
عقارب الزمن اليوم نصال تقترب من رقاب الشعب السوري، ومن عنق وحدتنا الوطنية شعباً وأرضاً، ويحركها محرّك واحد مؤلّف من قطعتين متكاملتين، إحداهما الفساد بشقيه الداخلي البرجوازي والخارجي الإمبريالي، والثانية عنف الفوضى المغذى خارجياً وداخلياً أيضاً. فليبادر كلّ الوطنيين الشرفاء اليوم إلى تعطيل هذا المحرّك قبل أن تأخذنا الدوامة ونغرق جميعاً!