حتّى لا يؤدي التعديل إلى النتائج السلبية نفسها!
ستيركوه ميقري ستيركوه ميقري

حتّى لا يؤدي التعديل إلى النتائج السلبية نفسها!

لقي إعلان إنهاء حالة الطوارئ وحل محكمة أمن الدولة صدىً إيجابياً في الشارع السوري، باعتبار ذلك جاء تجاوباً مع مطالب الشعب، خصوصاً مع تصاعد الحراك الجماهيري الجاري حالياً، ولكنّ هل ترسّخت الضمانات الكافية لإزالة المفاعيل السلبية التي رافقت فرض حالة الطوارئ عبر عقود؟ وهل ثمّة عراقيل من شأنها أن تصادر الإيجابيات المأمولة من هذا الإجراء، أو تجعلها منقوصة؟

إن التجاوب مع مطالب الجماهير حتى لو تم تحت ضغطها، فيه من التعقل الكثير الكثير، لأن هذا التجاوب سيمنع إراقة المزيد من الدماء، وسيمنح الوطن قوة إضافية في مواجهة مخططات الخارج التي كانت وما زالت وستبقى تسعى لضرب البلد كدولة مواجهة.. وقد قلناها سابقاً ونقولها الآن، وسنقولها لاحقاً: إن وجود معارضة جدية وحقيقية من القوى والأحزاب الوطنية الموجودة في المجتمع السوري ضرورة حيوية لا بد منها، لتكون قوة مراقبة تستطيع أن تشير للأخطاء عند حدوثها بحرية تامة دون خوف من الاعتقال أو الانتقام منها بأي شكل من الأشكال، وبالتالي فإن غياب المعارضة (كما هو حاصل الآن مع كل نتائجه) سيشعر النظام السياسي بحالة من الرضا عن النفس لا تضع الغباشة على عينيه وحسب، بل قد تعميه عن أخطاء ارتكبت واستمرت وتفاقمت وتحولت إلى أزمة مستفحلة أصبح التخلص منها أمراً في غاية الصعوبة، ويحتاج إلى تدابير وإجراءات إضافية لحله، وأكبر مثال على ذلك تفاقم الفساد واستشراؤه في جهاز الدولة، والنهب المنظم الجاري لخيرات هذا الوطن، وأضحت قضية إنهائه وتطهير أجهزة الدولة منه أمراً ضرورياً لاستمرار مجتمعنا السوري وبلدنا كدولة مواجهة.. فما المطلوب من أجل تحقيق الغاية من نشوء الدول كعقد اجتماعي بين الشعب والنظام السياسي؟ وما شكل العلاقة التي يجب أن تسود بينهما؟.

إن المطلوب حالياً ويفرض نفسه على الأحداث الجارية والمؤلمة جداً هو التعقل كما قلنا أولاً، والهدوء في نقاش الأمور، مع الجدية الضرورية ثانياً، ودون خوف من نتائج ما نشير إليه من نقائص وأخطاء قد لا يرى البعض أهميتها وخطورتها، ولذلك نقول: إن ما قامت به السلطة السياسية في قضية إنهاء حالة الطوارئ وتعديل المادة 17 من أصول المحاكمات الجزائية هو كمن « أعطى باليمين ليعود ويأخذ بالشمال»، وهذا لا يتناسب مع ما هو مطلوب شعبياً في المرحلة الراهنة، فقد بينا سابقا أن المشكلة لم تكن بوجود قانون لحالة الطوارئ بحد ذاته، ولذلك لم نطالب بإلغاء هذا القانون، بل المشكلة في المدة الزمنية الطويلة التي فرضت خلالها حالة الطوارئ مع ما لازمها من تعسف في استخدام السلطة، وإساءة في استعمالها من جانب السلطة التنفيذية، واحتكارها للسلطات الأخرى التشريعية والقضائية وصاحبة الجلالة الصحافة بوصفها سلطة رابعة، فمع الإعلان عن رفع حالة الطوارئ وحل محكمة أمن الدولة صدر المرسوم رقم 55 ليعدل المادة 17 من قانون أصول المحاكمات الجزائية والذي جاء كما يلي:

«تضاف إلى المادة 17 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الفقرة التالية:

 3 - تختص الضابطة العدلية أو المفوضون بمهامها باستقصاء الجرائم المنصوص عليها في المواد من 260 حتى 339 والمواد 221و388 و392 و393 من قانون العقوبات وجمع أدلتها والاستماع إلى المشتبه بهم فيها على ألا تتجاوز مدة التحفظ عليهم سبعة أيام قابلة للتجديد من النائب العام وفقا لمعطيات كل ملف على حدة وعلى ألا تزيد هذه المدة على ستين يوما».

وتنص المادة 17 على ما يلي:

1- النائب العام مكلف استقصاء الجرائم وتعقب مرتكبيها.

2- ويقوم بذلك على السواء النواب العامون المختصون وفقا لأحكام المادة 3 من هذا القانون.

أما المادة 3 من قانون أصول المحاكمات الجزائية فتنص على الآتي:

1- تقام دعوى الحق العام على المدعى عليه أمام المرجع القضائي المختص التابع له مكان وقوع الجريمة أو موطن المدعى عليه أو مكان إلقاء القبض عليه.

2- في حالة الشروع تعتبر الجريمة أنها وقعت في مكان وقع فيه عمل من أعمال البدء في التنفيذ. وفي الجرائم المستمرة يعتبر مكانا للجريمة كل محل تقوم فيه حالة الاستمرار. وفي جرائم الاعتياد والجرائم المتتابعة يعتبر مكانا للجريمة كل محل يقع فيه احد الأفعال الداخلة فيها.

3- إذا وقعت في الخارج جريمة من الجرائم التي تسري عليها أحكام القانون السوري ولم يكن لمرتكبها محل إقامة في سورية ولم يلق القبض عليه فيها فتقام دعوى الحق العام عليه أمام المراجع القضائية في العاصمة.

و بإلقاء نظرة رصينة وموضوعية على هذا التعديل نجد أنه قد أعطى الحق للضابطة العدلية، وللمفوضين بمهامها، وهم « أجهزة الأمن المختلفة » باستقصاء الجرائم المنصوص عليها في المواد من 260 حتى 339 والمواد 221و388 و392 و393 من قانون العقوبات، وجمع أدلتها والاستماع إلى المشتبه به، وهذه المواد الواردة في قانون العقوبات تبين مختلف الجرائم الواقعة على أمن الدولة، كالدسيسة وتضليل الرأي العام والخيانة والتجسس لمصلحة العدو أو أية دولة خارجية، أو حمل السلاح وتهريبه ورفعه ضد الدولة وأجهزتها، وغيرها من الجرائم المختلفة التي قد تقع ضد الدولة وتعرض أمنها للخطر. صحيح أن التعديل قد حدّ من إطلاق يد أجهزة الأمن والضابطة العدلية، ومنعها من سوء استخدام هذا الحق المعطى لها بقوة القانون، واشترط تحديد فترة الاعتقال بـ 7 أيام فقط، وعدم تمديد هذا الاعتقال إلا من النائب العام وفقاً لمعطيات كل ملف على حدة، وعلى ألا تزيد هذه المدة على ستين يوما، إلا أن هذا التعديل سيلقى اعتراضا بسبب التجربة السابقة مع هذه الأجهزة.

إنّ اعتراضنا على هذا التعديل لم يأت لمجرد الاعتراض، بل له أسبابه ومسوغاته المتنوعة، والتي يمكن إجمالها بثلاثة أسباب فقط هي: 

أولا – إننا في سيرنا نحو دولة قادرة على تحقيق العدالة الاجتماعية، لا بد من اتخاذ مبدأ الفصل بين السلطات كمبدأ أساسي للدولة الحديثة، والتي لا يستقيم الأمر فيها إلا بهذا المبدأ، وبالتالي فإنه يقع على عاتق السلطة القضائية القيام بهذا الأمر. أمّا إعطاء السلطة التنفيذية الحق في الاعتقال دون أمر قضائي فيعني إعطاء السلطة التنفيذية صلاحيات هي من اختصاص القضاء أصلاً، بل إن هذا الإعطاء بقوة القانون يعني جعل السلطة التنفيذية متمكنة من القيام بعمليات الاعتقال بشكل مستمر، طالما أنّ التعديل قائم إلى ما لا نهاية، وقد نبهنا إلى خطورة أن تستمر حالة الطوارئ لمدد طويلة، وآثارها الكارثية على المجتمع، وبالمقابل بينا مزايا نظام الفصل بين السلطات، فهو يؤدي إلى احترام مبدأ سيادة القانون، وهو أصل من الأصول، وتحسين أداء العمل والوظائف وإتقانها وسيادة الحريات ومنع الاستبداد بالدولة.

ثانيا – إن السلطة القضائية هي وحدها التي يجب أن تكون المخولة والقادرة على تحديد فيما إذا كان الفعل المقام يندرج في الجرائم التي تهدد أمن الدولة بموجب نصوص قانون العقوبات العام، في حين انه قد لا يتاح هذا الأمر للضابطة العدلية والمفوضين بمهامها، وقد يكون بعض أعضائها من غير الحقوقيين، وبالتالي لن يكونوا قادرين على توصيف الحالة، وتحديد فيما إذا كانت جرمية أم لا، أو كانت تهدد أمن الدولة أم لا.

ثالثا – لقد تحدث الجميع وأجمعوا على تنامي الفساد في أجهزة الدولة كافة، بما فيها بعض الأجهزة الأمنية والضابطة العدلية « الشرطة »، وبالتالي فإن إساءة استعمال السلطة أمر وارد جداً، لأن المال قادر دائماً على تحقيق غايات من يدفعه سواء أكانت مشروعة أم غير مشروعة، وقادر على تحويل الحق إلى باطل والباطل إلى حق.

لهذه الأسباب مجتمعة نرى أنه لا بد من إعادة النظر بهذا التعديل، الذي وإن كانت الغاية منه الحفاظ على أمن الوطن والمواطن، فإن سوء استعماله من أجهزة غير معتادة على أن تكون تحت القانون، وتعودت دائماً أن تكون فوقه، سيؤدي حتما إلى نتائج مماثلة للنتائج التي وصلنا إليها، بسبب المدة الزمنية الطويلة التي طبقت حالة الطوارئ فيها، كما يجب أن تكون العلاقة بين السلطة والشعب قائمة على أساس تحقيق العدالة الاجتماعية. وإن قضية الوطن والحفاظ على أمنه قضية وطنية من الدرجة الممتازة لا تخص أجهزة الأمن فقط، بل تخص أيضا كلّ الشعب السوري بفصائله وأحزابه وقواه السياسية، وتخص كل مواطن شريف يسعى للحفاظ على كرامة الوطن، التي تشكل أصلاً جزءاً من كرامة المواطن، وإن هذا التمازج بين كرامة الوطن وكرامة المواطن ليس تمازجاًمفتعلاً أو وهمياً، بل إنه حقيقة عبّر عنها شعبنا عبر تاريخه القديم، وتاريخه الحديث الذي بدء من يوسف العظمة وسلطان باشا الأطرش وحسن الخراط وصالح العلي وإبراهيم هنانو، وعز الدين القسام، مروراً بكل الشهداء الذين بذلوا أرواحهم فداءً لأن يبقى الوطن السوري جامعاً لكل أطيافه الشريفة والمناضلة وما أكثرها سابقاً ولاحقاً.