العنف.. ومهمة إنقاذ سورية!
تمر سورية اليوم بموجة من العنف والعنف المضاد، وأسوأ ما يمكن أن يولده العنف، وذلك قبل الحديث عن كونه -أي العنف- ثورياً أم رجعياً، هو أنه وبالدماء التي يلقيها على عدسات الكاميرات وعلى مفترقات الطرق كثيراً ما يُذهب عقول الناس، ويأخذهم بعيداً حتى عن مصالحهم، ويسيّرهم وفقاً لمزاجه الفوضوي، ولذا فمن الضروري الوقوف على خصوصية العنف في الواقع السوري.. بما تمليه فرادة النسيج السوري من جهة، وما يمليه الوضع الإقليمي والدولي لسورية من جهة أخرى..
العنف الاقتصادي..
تتفق حكومات العالم الرأسمالي وقنواته الإعلامية وتشريعاته على حصر العنف بالدم والرصاص، ذلك أن تناول العنف في صيغته العامة سيجعل من تلك الدول آلهةً لعنف شرس ومستمر، الأمر الذي لا يتناسب مع وجهها «الحضاري»، ومع استمرارية العنف الذي تعتاش عليه.. ذلك هو العنف الاقتصادي، وهو أصل كل الشرور وكل أشكال العنف الأخرى، إذ يموت عشرات الملايين سنوياً من الجوع والمرض دون قطرة دم واحدة، حيث يخنقهم العنف الاقتصادي من الداخل وتزرق عروقهم ولا تسيل منهم قطرة دم واحدة، ولكنهم في المحصلة يُعنفون ويقتلون، ولكن بأسلوب «حضاري».
في سورية حين تصل نسب الفقر المعلنة حكومياً إلى 30%، وأرقام البطالة إلى 11%، والواقع أسوأ من ذلك بكثير.. فلا تسمية أخرى توصف الواقع سوى العنف، العنف الذي يمارسه أصحاب السطوة والفاسدون على الجزء الأعظم من المجتمع حيث تُمتهن حقوق العمال ويُسرق تعبهم، وتبور أراضي الفلاحين وتُنهب غلالهم، ويلقى جزء غير قليل من الناس على هامش الحياة.. بلا تعليم وبلا عمل ودون أدنى فرصة للانسجام والتوازن ومتابعة حياة شريفة. أمام قانونيته التي لا يقوى على الخروج منها، يتطلع المستغلّ إلى حل مشكلاته ضمن منطق الفوضى ذاته، فالعاطلون عن العمل والمهمشون هم جزء من المشكلة التي خلقها بنفسه ولفائدته أولاً، وذلك بخلق عرض كبير على قوة العمل مقابل طلب متدنّ، ما يجعل من أجور العمال بخسة وتافهة وأقل بكثير من قيمة عملهم ومن أن تلبي حاجاتهم واستمراريتهم. أمام هذه المشكلة يفتح المستَغلون أبواب الاقتصاد الأسود، اقتصاد الظل، الذي يبدأ من بائعي الدخان المهرب إلى البسطات التي تبيع كل شيء مروراً بالعقارات المخالفة وبالدعارة والمخدرات.. وغيرها الكثير.. وهذا النوع من العنف يتراكم في صدور المعَنّفين، ويتساقط على الطريق جزءٌ منهم مقتولاً مختنقاً بسوء حاله، ولكنه يبقى كامناً وقابلاً للانفجار بكل الاتجاهات، ودون بوصلة واضحة، وذلك إذا ما ضُيّق عليه ومُنع من تسريب غضبه واحتجاجه بالسبل الأقل تكلفةً..
السياسات الليبرالية المتوحشة التي اتبعتها الحكومة الراحلة، غير مأسوف عليها، هي قمة العنف الاقتصادي تجاه الشعب السوري، والتي أوصلت سورية اليوم إلى ما هي عليه من تخبط وضياع مؤقت في البوصلة.. وأول ما يجب إيقافه اليوم هو العنف الاقتصادي، وذلك بالتراجع الفوري عن السياسات الاقتصادية التي اتبعت، ولعل البادرة المطلوبة لإثبات صدق النية هي التراجع الفوري عن رفع الدعم، وزج الفاسدين الكبار في السجون ومحاسبتهم هم وموظفيهم أي الفريق الاقتصادي الراحل.. ولن يكون هذا سوى أول الغيث، ولكنه غيث وطني لا رصاص فيه ولا دماء!!
العنف السياسي
حين تقفل الأبواب في وجه المحتقنين وأصحاب الحقوق المغتصبة، وتحديداً الأبواب السياسية، يصبح توجههم نحو عنف دموي أمراً قاب قوسين أو أدنى.. والعنف السياسي يتمثل بمصادرة رأي الناس وإغلاق المنافذ الحرة التي تسمح لهم بالتعبير عن آرائهم.. سواء أكان ذلك «مشرعناً»، أي خاضعاً لقوانين عنيفة سياسياً كحالة الطوارئ وغياب قانون الأحزاب وغياب قانون انتخابات عصري وقانون مطبوعات ووجود مواد دستورية من طراز المادة الثامنة، أو أن العنف السياسي كان التفافاً على الشرعية الدستورية والقانونية المتمثل بالاعتقالات ومنع الأحزاب السياسية بما فيها أحزاب الجبهة من ممارسة العمل السياسي في مفاصل محددة كالجامعات ودوائر الدولة والجيش، وضمناً تحويل الممارسة الديمقراطية إلى شكل لا مضمون له إلا انتصار قوى الفساد واستمرارها.
لكي تتجاوز الدولة السورية العنف الدموي عديم البوصلة، عليها التوجه نحو حريات أوسع تعيد النضال السياسي إلى دوائر الدولة وإلى الجامعات وإلى المجتمع كاملاً ليبحث عن بدائله الحقيقية بروية وبعقل بارد لا يأخذه الثأر أنى شاء، وعليها قبل قانون الأحزاب وقبل رفع الطوارئ، العمل على قانون انتخابات عصري يكون منفذاً لصوت الناس الحر وليس مسرحية تغتال فيها أصواتهم..
العنف الفئوي
الطريقة التي يتم التحاصص فيها سورياً، لم تكن يوماً على أساس تكافؤ الفرص.. وإلا لما وصل الفاسدون الكبار إلى بعض مواقع التنفيذ والتشريع وربما القضاء. الشكل الذي يتم التحاصص فيه، وإن كان من وجهة النظر الماركسية، ليس إلا تحاصصاً طبقياً في جوهره يأخذ فيه ممثلو رأس المال والتجار الحصة الكبرى، فإن شكله «السوري» لا يعدم الفئوية!، حيث يتم اللعب على خصوصية تعقيد النسيج السوري لتبدو الأمور كما لو أنها لمصلحة فئات ضيقة على حساب فئات أخرى أوسع منها، والمدقق في الأرقام يرى أن النسب المتضررة ضمن كل الفئات هي ذاتها أو متقاربة جداً، ونقصد بالفئات الطوائف والقوميات والعشائر وجميع التكوينات العائدة لما قبل الدولة الوطنية، تلك الفئات التي بوحي ممن يبرزها متناقضة متعارضة، تذهب نحو أشكال من العنف المتبادل لا تخدم في المحصلة إلا زعماء تلك الفئات ذاتها، أي رساميلها الكبيرة ونهابيها الكبار، ويأخذ العنف الفئوي شكله الأكثر عمالة في ظروف مثل الظروف السورية، ظروف المواجهة مع الصهاينة ومع التربص الأمريكي الامبريالي، حيث تعمل بعض المفاصل والأجهزة بغباء شديد أو (؟) على دفع الشكل الفئوي والمذهبي إلى الواجهة، وإن تحت شعارات تبدو وطنية ويبدو منها أن همها الأكبر هو الحرب ضد المؤامرة، ولكنها في النهاية وتبعاً للخصوصية السورية تضيف مزيداً من الزيت لنار التفتت المذهبي والطائفي..
العنف المدني
العنف المدني هو استمرار ومحصلة للعنفين الاقتصادي والسياسي، وهو المتمثل بالتهديد المباشر لمواطنية الإنسان وكرامته الشخصية، والذي يأخذ صياغاته الواقعية في غياب الدور المؤسساتي الحقيقي في إدارة شؤون البلاد وطغيان المحسوبيات والتنفذ على طبيعة العلاقات وما ينتج عن ذلك من استهتار بكرامات الناس وتنكر لخصالهم وقدراتهم، ويمكن رؤية ذلك عياناً في الأسلوب التعليمي في الجامعات والمدارس وطرق التعاطي السلبية مع الطلاب، كما يمكن رؤية ذلك أيضاً في قانون الأحوال الشخصية «العثماني» وتطبيقاته وتجاوزاته على حريات الناس الشخصية، يضاف إلى ذلك ظواهر الاستزلام والتشبيح التي تأتي مخدماً ومكملاً للفساد الكبير ومديراً لاقتصاد الظل الذي يخلقه. كل ذلك يتجلى تعدياً على مواطنية المواطن وفاعليته الاجتماعية..
العنف المسلح
يأتي العنف المسلح تجلياً نهائياً وصريحاً لكل أشكال العنف الأخرى، ولعله الشكل الأكثر بساطة ووضوحاً للعنف، ومع ذلك فهو الأكثر تعقيداً من حيث أسبابه وغاياته ونتائجه، فالعنف المسلح هو على الدوام الوسيلة الأخيرة التي تلجأ إليها القوى المتحاربة لتظهر مدى قوتها، فتبين وزنها الفعلي وتأخذ الغنائم على أساس مدى القوة، ولكن هذا الشكل من الصراع يحدث حين يكون الطرفان المتصارعان واضحين كل الوضوح، ولكن في الحالة السورية حين يختلط التظاهر السلمي بعمل «عصابات مسلحة» وتختلط استجابة الدولة لمطالب المتظاهرين بالحل الأمني العنيف، فإن البوصلة تضيع، ويصبح المستفيد الوحيد هو صاحب المصلحة بإيقاف الحراك الشعبي الحقيقي وكسر شوكته، وهو بلا أدنى شك الفساد الكبير الذي سيزجه الحراك الشعبي في السجون ويحاسبه على سرقاته في حال تطور ذلك الحراك ونضج نضوجه الطبيعي ضمن الأطر الوطنية، ولذا فإن قوى الفساد داخل جهاز الدولة وخارجه لها مصلحة كبرى برفع منسوب الدم وبسرعات قياسية وتأريض الحراك الشعبي بأسرع ما يمكن لإعادة اقتسام النهب دون تغيير حقيقي في توزيع الثروة على المستوى الوطني..
العنف الثوري
العنف الثوري في ظروفنا هو عنف يوجه الحرب نحو حل التناقض الأساسي بين العمل ورأس المال، وترجمة هذا الكلام هي أن للعنف الثوري جبهتين أساسيتين: الجبهة الطبقية، والجبهة الوطنية الخارجية، وفي الظروف السورية، وأمام المستجدات التي تنبئ باحتمالات تدخل أجنبي، فإن للعنف الثوري وجهةً أساسية، وهي فتح المعركة مع العدو الصهيوني وتجييش الناس للانخراط الفاعل بها، وفي سياق المعركة الوطنية فإن الفاسدين أمام خيارين: إما أن يهربوا بفسادهم، أو أن تظهر عمالتهم بالتحاقهم السريع بالخندق الآخر، وبذلك يتم تطهير سورية من الفاسدين، ويكون حل الإنقاذ الوطني انطبق على حل الإنقاذ الطبقي للفئات المتهالكة تحت وطأة السياسات الاقتصادية الجائرة.