ملامح النضوج الذاتي.. والتقدّم نحو الحلّ
جاءت المواقف السياسية الأخيرة التي أدلى بها ممثلو أكثر من طرف في الأزمة السورية, من الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية, وما حملته من تغيّر واضح في منطق التعامل مع رؤية الحل.
من حيث انتقال بعضهم من موقع التشدد وعقلية الحسم/الإسقاط والتمنّع عن الحوار, إلى موقع التعبير عن القبول بالحوار والحل السياسي, جاءت كمؤشر ما يزال حتى اللحظة يعبّر عن رضوخهم المنفعل لضغط الواقع والتوازن الدولي والمحلي, أكثر منه مبادرة فاعلة بملء إرادتهم. ذلك أنّ طريق الحوار والحلّ السياسي, على عكس ما يظنّ البعض, هو الطريق الأصعب على الأطراف المتشددة, ولو أنه الطريق الأسهل والأكثر أماناً وصلاحاً لحياة ومستقبل سورية شعباً ووطناً.
من المعروف أنّ النهج المعتمد على السلاح طريقاً وحيداً للحلّ, من جانب جميع الأطراف, قد مُني منذ زمن بفشل بيّن على أرض الواقع الموضوعي, لكنّ الاعتراف الذاتي بفشله من هذه الأطراف, تأخر كثيراً, ولكنه جاء أخيراً, ولو على مضض وتردد يدل عليه الإطناب والإسهاب في ما يمكن أن نسميه «كلام العطالة» المتبقي إلى جانب الجوهر الجديد, أي تلك الأجزاء من الخطاب السياسي للأطراف المختلفة, والتي من الطبيعي أن تلازم عادةً التحول والتغيير إلى رأي جديد, بعد التشدد السابق على رأي قديم.
لكن هذا التطور الجاري باتجاه الحل السياسي, لن يؤدي تلقائياً وسريعاً إلى إنهاء الصراع المسلح كلياً ومباشرةً, ذلك أنّ أدوات الفوضى والتدمير والإرهاب المرتبطة بالمشروع الأمريكي الغربي وحلفائها من قوى الفساد الكبرى في كل المواقع, بما فيها داخل النظام الحالي, سوف تستمر على الأغلب بمحاولات قد تكون يائسة ومتشائمة من حيث قدرتها على الوقوف في وجه التيارات التي تشق طريقها نحو الحل السياسي, ولكنها بالحد الأدنى ما تزال تعوّل على استخدام العنف, ورقة للضغط السياسي على طاولة الحوار نفسها. ولكن أزمتها ربّما تكمن هنا بالذات, لأنها ما كانت لتلجأ إلى هذه الورقة, لو كان لها فعلاً وزن شعبي حقيقي أو هام على أرض الواقع, وبين أبناء المجتمع السوري. لذلك فإنّ هذه الورقة وإن استخدمت في المرحلة القادمة, فإنها لن تفيد تلك الأطراف, اللهم إلا مؤقتاً وعلى المدى القريب.
تعتبر معركة الحوار هي الأصعب على اللاعبين السياسيين, لأنها مختبر حقيقي, تفرض على الجميع طرح مبادراتهم وبرامجهم وإعلانها على الملأ وفي حضرة الشعب, ليمنح بركاته ورحمته لمن يرتضيه منها, أو يمنعها عن الفاشلين والراسبين في امتحاناته الوطنية وتحقيق تطلعاته ومصالحه. ولعل من الضروري تحذير الجميع اليوم, ونحن نشهد النضوج الذاتي لفكرة فشل الحسم المسلح لأي طرف, بأنّ أية محاولة للتراجع عن الحوار الجدي والحل السياسي من أي طرف لن تؤدي فقط إلى إعادة إنتاج الأزمة, بل وسوف تحكم بالإعدام السياسي على من يرتكب ذلك الإثم, وتدفنه في مقبرة التاريخ إلى غير رجعة.
تنفتح اليوم أمام الشعب السوري فرصة تاريخية نادرة, إذ إنّ الشكل السياسي والسلمي الذي يبدو أن الصراع سوف ينتقل إليه أثناء «المرحلة الانتقالية», يقدّم إمكانية هائلة أمام القوى الشعبية والتقدمية في سورية, لكي تملأه بمضمونٍ يناسبها ويحقق مصالحها في صياغة نظام سياسي وطني ديمقراطي شعبي أكثر تقدمية, بشرط أن تعرف هذه القوى كيف تجمّع صفوفها وتنظّمها لتحقيق هذا الهدف.