عن الصراع القادم...

عن الصراع القادم...

فرض التوجه نحو الحوار نفسه بقوة نضوج الظرف الموضوعي المتمثل باستحالة تحقيق التدخل العسكري الخارجي المباشر من جهة، وبالفشل الذريع الذي أصيب به الحل الأمني والعسكري من جهة أخرى. هذا ما سيحتِّم على جميع القوى السياسية السورية، على اختلافها وتنوعها، التوجه نحو الحوار السياسي، بعضها سيتجه بخطواتٍ متثاقلة، والبعضُ الآخر سيتجه بنفسٍ ثابت متيقن من امتلاكه أدوات الصراع الجديد. وهنا لا بد من محاولة استنباط سلوك قوى التشدد في النظام والمعارضة في مرحلة الحوار، انطلاقاً من دراسة واقع بنيتها الحقيقي. ولعلَّ دراسة هذا السلوك إزاء قضيتين رئيستين يفي بالغرض، أولاهما تتعلق بالجانب الديمقراطي الشعبي ومفهوم التعددية السياسية، وثانيهما مرتبط بالتناقض الطبقي في المجتمع والموقف من تحقيق العدالة الاجتماعية..

قوى التطرف والديمقراطية:

لعبت القوى المتطرفة، في النظام والمعارضة، الدور الأبرز في تأجيج نيران المعركة العسكرية على الأرض. فانطلقت من إيمانها وتعويلها على مدى قدرتها الكفيلة بتحقيق هدفها المنشود، المتجسد بالاستئثار بالسلطة، والسيطرة على مراكز صنع القرار، دون منازعٍ أو منافس، فترجمت ذلك على أرض المعركة في قتالٍ لم تراعِ فيه قدرة البلاد على تحمل عواقبه.

وانطلاقاً من بنيتها المتشددة، واستماتتها في الدفاع عن مطامعها، ستذهب قوى التشدد هذه إلى الحوار السياسي محكومةً بعقلية  المعركة العسكرية، وستحاول تحقيق ما ثبت استحالة تحقيقه في المعركة العسكرية عبر الحوار، مستخدمةً سطوتها العسكرية على الأرض كورقة ضاغطة على طاولة الحوار، محاولةً فرض ما لن يتم التوافق عليه، مما سيعرقل سير عملية الحل السياسي بشكلٍ سليم، ويؤدي بالتالي لصدامٍ من نوع جديد..

ستحاول فرض «ديمقراطيتها التوافقية» على الديمقراطية الشعبية ومنطق التعددية السياسية، هذا ما سيجعلها في صدامٍ مباشر مع القوى الشعبية الوطنية المطالبة بتحقيق ديمقراطية الأكثرية المنهوبة، على حساب الأقلية الناهبة. مما سيسهل عملية الفرز بين القوى الداخلة إلى الحوار بهدف تحقيق الخروج الآمن والناجز من الأزمة، والقوى التي ستدخله في سبيل جر الحوار لإنتاج «مخارج» توافقية مرفوضة شعبياً.

المتشددون والتناقض الطبقي:

شكَّل التناقض الطبقي ما بين الأقلية المستغِلّة والأكثرية المستغَلّة، إحدى أهم الدوافع التي أدت لخروج الحراك الشعبي السلمي إلى الشارع السوري في بادئ الأمر. هذا ما يدلّل على أن التداول فيما يخص المسألة الطبقية، سوف يفرض نفسه كمهمة أساسية يجب التوافق حولها على طاولة الحوار المرتقبة. والتوافق هنا، لن يقوى على الاستمرار إذا لم يأخذ في الحسبان مصالح الأكثرية المُهمَّشة المتعطشة لانفراجات اقتصادية حقيقية تصبُّ في مصلحتها المشروعة..

إذا ما نظرنا إلى البنية الطبقية التي تتسم بها قوى التشدد في طرفي الصراع، لوجدنا أنها في غالبيتها ممن تندرج في خانة المستغِل لا المستغَل. من هنا، ستعاند قوى التشدد بشراسة تطلعات القوى الوطنية لبناء سورية دولة العدالة الاجتماعية، ما سيضعها وجهاً لوجه مع المصالح الشعبية، في صدامٍ آخر أكثر شراسة، محركه الرئيسي رغيف الخبز، ولقمة عيش المواطن السوري..

كل هذا، بمعزل عن تناقض مصالحها الطبقية مع الحقيقة القائلة بأن الدولة المقاومة لا يمكن أن تأخذ شكلها الأمثل، دون الاستناد إلى اقتصادٍ مقاومٍ بدوره. فكما عارضت هذه القوى خطوة الاتجاه شرقاً، بسبب ما حققته لها سنوات الانفتاح على الغرب الماضية من قدرة أكبر على النهب والسرقة، وصعوبة تأقلمها مع متغيرٍ اقتصادي بهذا الحجم، ستعارض أيضاً أي خطوة اقتصادية مثيلة تعزز المكانة المقاومة لسورية. هذا ما سيعريها ويدخلها في المواجهة الأشد على الإطلاق، وهي الصراع على هوية سورية الجديدة.

مما سبق يمكن الاستنتاج، أن مصالح قوى التشدد تتناقض تماماً ومصالح الأكثرية الشعبية، سواء فيما يخص الجانب السياسي المتمثل في طريقة حكم سورية، أو فيما هو مرتبط بالمصالح الطبقية لهذه الأكثرية، أو حتى في الجانب الوطني الذي حدّد الشعب السوري، عبر تاريخه، موقفه الحازم منه. إلى هنا يمكن التكهن بصراعٍ قادم، تقف فيه قوى التشدد موقفاً واضحاً في جوهره بعدائه للشعب السوري، تكون الكلمة الفصل فيه للأكثرية المُهمشة إذا ما تضافرت جهودها..