المواطنة.. بين الحدود والحقوق
في خضم ما يجري اليوم في الساحة العربية، وازدحام المشهد السياسي الحالي بالعديد من الشعارات والطروحات التي تتناول مفاهيم الديمقراطية والحرية والمصالح الشعبية، ينهض مفهوم المواطنة بشكل وئيد ويصعد شيئاً فشيئاً ليكون بديلاً أعمق وأكبر من الانتماءات الضيقة للدين أو الطائفة أو العشيرة أو العرق.
ويعلن بوضوح عن غياب التطبيق الواقعي لهذا المفهوم فيما مضى وحتى الآن، فلم تحل هذه المشكلة بشكل نهائي رغم وجود حركة اجتماعية وسياسية تاريخياً، تطالب بتكريس مبدأ المواطنة والاحتكام إلى دولة تضع الجميع في الموقع نفسه من حيث الحقوق والواجبات وتلغي التمييز على أسس متخلفة، فما تزال السلطة السياسية في كثير من البلدان العربية تتوسد بالتناقضات الثانوية من أجل قضاء أغراضها السياسية والاقتصادية، وسلب عوام الشعب حقوقهم الاقتصادية- الاجتماعية، فتحول مفهوم المواطنة في هذه الدول إلى شعارات فرغت من محتواها، أو نصوص دستورية جامدة بعيدة كل البعد عن ساحات التطبيق..
شغل مفهوم المواطنة بال المفكرين والسياسيين وعلماء الاجتماع في مراحل متعددة من التاريخ البشري، ويرجع هذا الاهتمام إلى الدور الذي لعبه هذا المفهوم في تكوين وتأسيس ملامح بعض الحضارات العريقة، كالحضارة اليونانية والرومانية التي اعتبر فيها مفهوم المواطنة ركيزة أساسية لتأسيس المجتمع المدني، بأشكاله الأولى، ثم ساهم تطور الجماعات البشرية وبعض الحوادث التاريخية المفصلية - كالثورة الفرنسية على سبيل المثال - في صياغة الشكل المعاصر لتلك العلاقة بين الفرد والدولة بما تتضمنه من حقوق وواجبات بين الطرفين.
فالمواطنة إذاً ليست انتماء الإنسان إلى بقعة الأرض لمجرد ولادته فيها، أو قضاء حياته ضمن حدودها، وبالتالي عليها أن تظل بعيدة عن الصراع السياسي، وألا تكون مكرمة تهبها الجماعة الحاكمة لفئة أو طبقة دون أخرى. وصولاً إلى عودة ظهور الإشكاليات حول هذا المفهوم في نهايات القرن العشرين، من تزايد للمشكلات العرقية والدينية في أقطار كثيرة من العالم وتفجر العنف، ليس فقط في بلدان العالم الثالث، بل أيضا في قلب العالم الغربي، كما حدث في فرنسا بين السكان الأصليين والمهاجرين الأجانب، إذ سبب ظهور تناقضات جديدة في المجتمع البشري أزمة في هذا المفهوم، الأمر الذي يؤكد ضرورة تجديده..
قوضت تناقضات كثيرة هذا المفهوم في نسخته الأخيرة التي رشحت عن الثورة الفرنسية، وخضع مفهوم المواطنة إلى مفارقات كبيرة بحجم تناقضات النظام الرأسمالي العالمي، والأنظمة المكونة له فمع اشتداد هذه التناقضات، وتحول أدائها من تقدمي حطم بنية المجتمع الاقطاعي المتخلفة إلى رجعي يقف في وجه البشرية جمعاء، من خلال تهديده أمن البشرية عبر الحروب، أو عبر استنفاد موارد الطبيعة وتدمير البيئة والكوكب، لم يعد يصح القول إن المتشرد وصاحب المليارات متساوون في الحقوق والواجبات. لم يعد ممكناً تجريد هذا المفهوم ووضعه في برج عاجي شاهق إلى جانب قيم الديمقراطية والحرية التي ألبست رداء القداسة في البلدان المتقدمة فيما تخوض حروباً ضد شعوب العالم الثالث. فكيف يمكن لمواطنة الأنظمة الديمقراطية الأولى في العالم أن تكتمل على حساب مواطنة شعوب أخرى وكرامتها وثقافتها وثرواتها؟؟
يعاني هذا المفهوم ما تعانيه كل قيم الثورة الفرنسية التي يجري تحنيطها تمهيداً لوضعها في المتحف إلى جانب أهم ما انتجت البشرية. فهو ما انفك يصطدم بالتناقضات السياسية والطبقية والوطنية وغيرها، ليخضع إلى ضرورة التجديد مرة أخرى.
هذا قدر طبيعي لهذا المفهوم فقد أصبح بالياً بنسخته الحالية التي تعود إلى أكثر من مائتي عام، أصبح بالياً كقيم النبالة الإقطاعية، وكمجلس الشيوخ في روما دولة العبيد. هو بحاجة إلى ثورة كي يتجدد..