أوهام التحليلات الاقتصادوية لعوامل نشوء «الثورة»
تؤمن التحليلات الاقتصادوية بعذابات الجماهير كطريق للخلاص «الذاتي ..النخبوي» ضمن المنطق الشعبوي القائل «كلما خربت تعمر» أي كلما ساء الوضع الاقتصادي لعموم الجماهير وازدادت معاناتها، اكتملت ملامح الانفجار الاجتماعي الذي يفضي إلى ثورة. فأين يكمن الخطل في هذه الرؤية؟؟
أولا: الخلط بين الحالة الاحتجاجية والحالة الثورية: فإذا كانت الأولى مقدمة للثانية، فتحول الحالة الاحتجاجية إلى حالة ثورية ليس حتمياً، فالحالة الاحتجاجية عبر التاريخ كانت هي القاعدة و الحالة الثورية هي الاستثناء. إن شروط تحول الحالة الاحتجاجية إلى حالة ثورية هو تراكم الحد الأدنى من مستوى الوعي السياسي، الأمر الذي يتشكل أثناء الحركة الاحتجاجية ولكن ليس بالضرورة بالسرعة و الاتجاه المطلوبين، إذ يتأثر ذلك بحال الحركة السياسية السابق لنشوء الحركة الاحتجاجية، ومقدرته على تسريع نضوجها الثوري، و تجنيبها الانحراف عن صراط مصالح عموم الجماهير، يضاف على هذه و ذاك عامل مستوى تنظيم الحركة الجماهيرية، الأمر الذي يتأثر بالعوامل السابقة.
إن أثر اللبرلة السلبي، على سبيل المثال، على الحركة الاحتجاجية في دول العالم عموما، وفي منطقتنا خصوصا وتأخيرها أو منعها تحولها إلى حالة ثورية يتأتى من الحقائق التالية :
إن أحد العناصر الهامة الأساسية في تحول الحركة الاحتجاجية إلى حركة ثورية هو تشكل عنصر الوعي في المجتمع. فاللبرلة بضربها للأساس المادي للحياة المادية للجماهير تضيق الهوامش على تقدم الوعي بمختلف أشكاله بما فيه السياسية، يضاف إلى ذلك ترافق الليبرالية غالبا في دول العالم الثالث مع مختلف أشكال القمع الفظة منها والناعمة للحياة السياسية الجدية. من ناحية أخرى فإن اللبرلة الاقتصادية تحمل معها منظومة قيمها وعاداتها و تفرض تغييرا في نمط العلاقات الاجتماعية في المفاهيم السائدة، تغييرا جوهره ثقافة الاستهلاك و تعميق الاغتراب الاجتماعي، لينتج ثقافة هجينة مشوهة، تعيد انتاج التخلف الفكري الاجتماعي السابق بقوالب «عصرية».
يضاف إلى هذا و ذاك أن اللبرلة تخرج من عملية الإنتاج و هوامشها جزءاً أساسياً من السكان لتنتج بذلك فئة المهمشين- أي العاطلين عن العمل- الذين لم يجدوا لهم مكانا في المنظومة الاجتماعية القائمة، فترتفع نسب الاحتقان الاجتماعي بينهم الأمر الذي يتجلى بتكون حالة سخط و حقد على المجتمع ككل، وليس على النظام الاقتصادي السياسي الذي همشهم. كل ذلك يترافق مع مستويات جهل مرتفعة في صفوف هذه الفئة، تجعلها أهم الفئات المرشحة لتكون وقودا لقوى الثورة المضادة، اذ يسهل التحكم بتلك الفئات من أي طرف كان دوليا أو إقليميا أو حتى السلطة نفسها، في هذا السياق يدخل نشاط الاستخبارات الدولية والإقليمية في صفوف هذه الفئة عبر ما يسمى بالحركات السلفية و التكفيرية، واستخدامهم وقودا لأجنداتهم القذرة، المعادية لمصالح الجماهير.
إن حالة الإفقار التي تخلقها الليبرالية، وغياب دور جهاز الدولة الاجتماعي لمصلحة سواد الشعب، يخلق الظرف الموضوعي لتنامي الروابط الاجتماعية ماقبل الوطنية، من طائفية و قومية و عشائرية..ألخ. والوعي المطابق لها. إذ تمتلك هذه الإطارات أنظمة «أمان اجتماعي» تلعب دورا ما في الملء الجزئي للفراغ الذي يخلفه تقاعد جهاز الدولة عن دوره الاجتماعي لمصلحة السواد الأعظم من الجماهير. إن تنامي الدور الاجتماعي لتلك الإطارات يعني تنامي الروابط الاجتماعية المبنية على الأسس الطائفية و الاثنية والدينية، والتي قد تصل جهاز الدولة بحد ذاته، على حساب الانتماء الوطني، وهو ما يخلق الأرضية لتفعيل التناقضات الثانوية لحظة الانفجار الاجتماعي، مما يؤدي من جهة إلى حرف الاصطفافات السياسية الشعبية باتجاه اصطفافات غير وطنية، ومن جهة أخرى يؤدي إلى إعاقة تطوير أشكال تنظيم الحراك الشعبي على أسس وطنية كفيلة بتحقيق مصالح عموم الجماهير، مما يجعل الطريق سهلا أمام قوى الثورة المضادة التي تستفيد من تنامي دور التناقضات الثانوية هذه لتحرف مسار الصراع .
طبعا كل ما تم ذكره لا يكافئ عدم إمكانية تحول الحالة الاحتجاجية إلى حالة ثورية بسبب اللبرلة، وإنما يسلط الضوء على مجموعة من الإشكالات التي تفترضها اللبرالية، والتي تلعب دورا بإعاقة، وربما لمنع، تحول الحالة الاحتجاجية إلى حالة ثورية، وبالتالي سطحية الاستنتاج القائل بأن اللبرلة تخلق الحالة المثالية لكل انفجار اجتماعي يفضي إلى ثورة. إن التحليل الاقتصادي لعوامل تكوّن حالة ثورية هو تحليل، سوى أنه غير علمي، نخبوي لفئات انفصمت عن الواقع و ترى بعذابات الجماهير طريقا لخلاصها الذاتي.