إفتتاحية قاسيون العدد 568: المعارضة الوطنية .. توافق أم إقصاء ..؟
في ظل استمرار نزيف الدم واستحالة الحل العسكري لمصلحة أي طرف كان، فالبلاد على مفترق طريق، إما أن تجد القوى الوطنية في النظام والمعارضة والشارع في نفسها ما يكفي من التصميم لتحمل المسؤولية التاريخية والذهاب إلى الحوار، وإما ان يستمر العنف والاقتتال بما يحمله من مخاطر على وحدة البلاد ومستقبلها.
إن الظروف الموضوعية لانطلاق الحوار بين النظام والمعارضة قد نضجت وتجربة أكثر من عام ونصف من المواجهات تثبت ذلك:
1 – فقوى المجتمع يعاد اصطفافها بعد التجربة العملية التي أكدت استحالة الانتصار النهائي لطرف على طرف.
2 – والقوى السياسية بغض النظر عن موالاتها ومعارضتها يعاد اصطفافها وتضعف بين صفوفها شيئاً فشيئاً القوى المتطرفة الانتقامية.
3 – ويتأكد يوماً بعد يوم استحالة التدخل العسكري المباشر لحسم الصراع على النمط الليبي أو العراقي.
4 – كما يتوضح عدم إمكانية تحقيق النموذج التونسي أو المصري في الظروف السورية لسبب توازن القوى الخاص بها.
5 – ويتبين أن استخدام القوة العسكرية لحسم الصراع قد وصل إلى حدوده القصوى في الأسابيع الأخيرة من جميع الأطراف، لذلك فإن عدم الوصول إلى حل نهائي من خلالها سيفضي من حيث طبيعة الأمور إلى البحث عن حلول في طريق آخر، ومن هنا تزداد أرجحية الذهاب إلى بداية حل سياسي.
6 – وأخيراً أخذ الوضع الميداني العسكري الأمني يلقي بثقله الغليظ على كاهل الوضع الاقتصادي مما يهدد الحد الأدنى لمقومات الحياة البشرية، إضافة إلى الأخطار التي تتزايد وتهدد بتوقف آلة الاقتصاد الوطني بمجملها.
إن كل هذه الظروف الموضوعية التي تتهيأ كي تكون أرضية انطلاق للحوار المنشود والذي طال انتظاره، تتطلب جاهزية الظرف الذاتي أي جاهزية المتحاورين.
فالطرف الأول من المتحاورين والذي هو النظام لا يرفضه من حيث المبدأ، ولكنه لا يزال يتعامل معه بلغة التسويف بحجة عدم جاهزية الطرف الآخر أو حتى عدم وجوده وهو على الأقل لا يساعد بسلوكه العملي على تجهيزه للحوار، ولا يبذل الجهود الكافية بهذا الاتجاه بل يقوم أحياناً بإعطاء المتطرفين في الطرف الآخر الحجة للهروب من الحوار، أو على الأقل عدم الإقدام عليه ليبدو أحياناً أن هذا الوضع يروق للبعض في النظام ويريدون استمراره على قاعدة ( ذهبنا إلى الصلاة ووجدنا باب الجامع مغلقاً )...
أما الطرف الثاني في المعارضة السياسية الوطنية فقد أصبحت الأكثرية في صفوفها وخاصة في الداخل لا تضع شروطاً تعجيزية مسبقة للحوار وهي جاهزة له بالمعنى العام، ولكنها تعاني من بعض المشاكل والأمراض التي قد تبدو للوهلة الأولى صغيرة، ولكنها في لحظة معينة قد تشكل خطراً مميتاً على عملية الحوار بمجملها.
هناك قوى في المعارضة الوطنية في الداخل إن كانت قد تعافت من مرض عدم التقدير الصحيح للقوى على الساحة الوطنية مما دفعها سابقاً لتأجيل التعاطي الجدّي مع الحوار، ولكنها ما زالت تعاني من مرض التعالي والمبالغة بتقدير قواها والاستخفاف بقوى معارضة أخرى، وتنحو باتجاه احتكار القيادة، وتوزيع شهادات حسن السلوك، وإقصاء الآخرين مما يهدد بقسم صفوف قوى المعارضة الوطنية في الداخل.
إن بعض قيادات المعارضة الوطنية تعاني من مرض النظام ذاته ألا وهو مرض الاستئثار والإقصاء وعقلية الحزب الواحد.
إن المجتمع السوري يخوض معركة تاريخية وفاصلة للوصول إلى نظام سياسي حزبي تعددي ديموقراطي، بينما تمارس بعض قيادات المعارضة الوطنية عقلية أحادية إقصائية متعالية.
إن تجاوز هذه الأمراض له اهمية راهنة قصوى لأنها قد تكون السبب الوحيد اليوم لإفشال تجميع قوى المعارضة الوطنية في الداخل على قواسم مشتركة دنيا في معركة الخروج الآمن من الأزمة للوصول إلى سورية الجديدة الديموقراطية التعددية.
إن عدم تجاوز الأزمة الراهنة للمعارضة الوطنية في الداخل قد يضيّع فرصة تاريخية نادرة لوضع الأساس الصالح للخروج من الأزمة.
إن عقلية الاستئثار والإقصاء لا يمكن أن تجمع المعارضة الوطنية على أرضية واحدة، بل سيستمر تشتتها وتفرقها.
إن المسؤولية التاريخية حين ذاك سيتحملها أولئك الذين وضعوا مصالحهم الفئوية الحزبية الضيقة فوق مصالح الوطن والشعب وسيكونون مسؤولين أمام البلاد في استمرار نزيف الدم السوري، ولن تكون مسؤوليتهم أقل أبداً من مسؤولية الذين يطلقون النار ويتسببون بالعنف المباشر.
إن الذهاب إلى توافقات مبدئية بين أطراف المعارضة الوطنية في الداخل سيسمح بتكوين وتشكيل المحاوِر الثاني الذي سيطلق عملية الحوار الوطني، أي العملية السياسية الشاملة، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن.