اللجان الشعبية الحقيقية.. لن يصنعها إلا الشعب!

اللجان الشعبية الحقيقية.. لن يصنعها إلا الشعب!

أفرز غياب جهاز الدولة السورية كوظيفة وحتى كتواجد مادي على الأرض في كثير من المناطق والأحياء عدداً من الظواهر السلبية، من بينها ظاهرة ما يسمى «اللجان الشعبية» بوصفها مجموعات مسلحة غالباً، جُنّدَت أو تطوّعت كرديف أو بديل عن الأجهزة الأمنية الرسمية في مهامها ودورها، وبالتالي فإنّ وظيفتها هذه جعلت تركيبتها تتألف من عناصر مشابهة من ناحية الوضع الاجتماعي-الطبقي لتركيبة أجهزة الأمن، أي من فئات المهمشين اقتصادياً واجتماعياً مما يضعها في أزمة بنيوية ووظيفية تنفي عنها صفة «الشعبية».

يعتبر عجز هذه اللجان عن أن تكون «شعبية» نظيراً لعجز جماعات «الجيش الحر» أن تكون شعبية، لأنّ كليهما يعتمد على استخدام السلاح ضدّ الشعب السوري بذريعة حمايته، وتشوبهما بشكل واضح نزعات تقسيمية تميّز بين المواطنين على أساس ديني وطائفي وقومي وعشائري.. مما يولّد الاستياء الشعبي من سلوكهما، الذي كثيراً ما يكون مهيناً ومستفزاً ومهدداً لأمن وكرامة المواطنين القاطنين أو العابرين لنقاط تمركز وحواجز هذه الجماعات، وهو الأمر المشترك بينها على اختلافها الشكلي بين محسوب على «الموالاة» أومحسوب على «المعارضة».  وبتأمّل هذا الدور الذي تلعبه نجد أنها أصبحت أدوات بين أيدي الفساد الكبير المحلي ورعاته وقادته في الخارج الإمبريالي الصهيوني، رغم أنّها بحد ذاتها مفرزات لسياسات القمع والإفقار والاستغلال الممنهج الذي مورس لعقود وما يزال، لمصلحة تلك الطغم الرأسمالية، التي تعمل جهدها لركوب أمواج التغيير لدى الشعوب، وتفريغ طاقاتها باتجاه تفتيت أوطانها وتدمير مجتمعاتها.

ولكن الوجه الآخر من ظاهرة التجمعات اللاشعبية هذه هي أنها وجدت الفرصة أمام الفراغ الناشئ ليس فقط عن غياب جهاز الدولة، بل وعن غياب لجان شعبية حقيقية، أي تجمعات من الجماهير تعكس في عملها ورؤاها المصالح العميقة للفئات الشعبية الواسعة، على مستويات متعددة، من الحفاظ على حياة المواطنين وأمنهم المباشر، وتأمين متطلباتهم المعيشية والاقتصادية، والحفاظ على مؤسساتهم الخدمية، التي تكونت تاريخياً في سورية ضمن إطار جهاز الدولة، وبالتالي لا يمكن لأي جماعة تستهدف تدمير البنى التحتية لأجهزة الدولة، وخاصة الخدمية والإدارية الحيوية منها، أن تكون «شعبية» أو «حرة».

إنّ عدداً ليس بقليل من التجارب الملموسة على الأرض، في كثير من المناطق والأحياء السورية في الفترة الأخيرة من الأزمة، تعطي مؤشرات على توجّه موضوعي لدى الفئات الشعبية من المجتمع السوري نحو تشكيل لجانٍ شعبية حقيقية مختلفة بوظيفتها عن الجماعات المتطرفة والمتشددة والميليشيات المسلحة والطائفية المتخندقة باسم النظام أو المعارضة، وهذه المهام تتمثّل بحماية الأحياء والمناطق من أيّ مظاهر تسلح وعنف يظهر ضدّ أبنائه أو منهم، إضافةً إلى العمل على تأمين الحاجيات المعيشية والاقتصادية الأساسية، مثل الوقود والغذاء، وحلّ المشاكل الاجتماعية بما يشبه إدارة ذاتية تعتمد على تعاون أبناء المجتمع والحفاظ على وحدته، وعلى السلم الأهلي.

إنّ هذه الوظيفة كضرورة موضوعية فرضتها الأزمة ومفرزاتها الكارثية، لا تستطيع أن تضطلع بأداها سوى بنىً محددة تنسجم معها، ولذلك فإنّ التركيبة الاجتماعية للجان الشعبية الحقيقية لا يمكن أن تكون إلا من الفئات الأكثر تضرراً من الأزمة، والباحثة عن حلّ سلمي وجذري لمشاكل المجتمع السوري على المستويات الاقتصادية-الاجتماعية والسياسية كافة، وبالتالي عن حلّ ديمقراطي شعبي، يجسّد شعار «السلطة للشعب».

وترتدي هذه التجارب الشعبية أهمية كبرى لأنّها على مستوى أكثر رقياً وتعقيداً من مجرّد الاحتجاج الشعبي العفوي، المتخذ شكل النزول إلى الشارع في مظاهرات ورفع شعارات وإطلاق هتافات، الشكل الذي - رغم اعترافنا بأهميته - يأخذه البعض ليعتبره على نحو خاطئ الشكل الأعلى من النضال والتضحية، في حين أنّ العمل الميداني المستمر للجان شعبية حقيقية سيكون أكثر صعوبةً وتأثيراً، لأنه يتطلب مسؤولية أعلى، فالحفاظ على حياة أبناء الشعب ومصالحهم والدفاع عنها وخوض الصراع السياسي من أجلها يتطلب قدراً أعلى من الوعي والمسؤولية والعَلنية. والبعض ما يزال يعيش بعقلية أنّ النضال لا يكون حقيقياً إلا إذا كان سرياً أو نخبوياً، ويتهم أي قوة سياسية تخوض الصراع السياسي علناً، بأنها إما طامحة إلى منافع سلطوية شخصية أو مهادنة لسلطات الفساد والقمع، والسبب في ذلك هو أنّ هؤلاء ما يزالون هم أنفسهم محكومين بعقلية الهزيمة وإسباغ صفات القدرة الكلية التي لا تقهر ولا تتغير على علاقات السلطة والحكم، بحيث لا يستطيع أن يتحرك أحد دون موافقتها، وهذا بدوره يعني نظرة دونية ومنتقِصة للشعب وقواه الحية، وتسخيف لطاقاته الكامنة على التغيير، وعجز عن التواصل معه وتفهّم حقيقة كون قواه هي الأداة الكبرى الأساسية لأي تغيير جذري في المجتمع.

ولذلك يجب على جميع الوطنيين تشجيع ودعم أيّ مبادرة شعبية باتجاه تشكيل وتطوير لجان شعبية حقيقية، لأنّ أهميتها تتجاوز مجرّد تأمين مخارج مؤقتة للاختناقات المعيشية والأمنية في أرجاء البلاد، إذ يعوّل عليها بوصفها مختبراً سيفرز ما يمكن أن نسميه «طليعة الحركة الشعبية» التي ستمثل الجزء الأكثر وعياً وجذرية فيها من الناحية السياسية والطبقية، الأمر الذي قد يكون له تأثير إيجابي حاسم باتجاه الدفع ليس فقط إلى الحلّ السياسي السلمي للأزمة السورية، بتمثيله لطرف الحركة الشعبية في الحوار الوطني المنشود،  بل وفي التحكم بالاتجاه اللاحق لتطور سورية سياسياً واقتصادياً-اجتماعياً وديمقراطياً تطوراً منحازاً للمصالح الجذرية العميقة للطبقات الشعبية الفقيرة والكادحة.