إفتتاحية قاسيون العدد 567: لا للعنف نعم للمصالحة الوطنية
تتأكد يوماً بعد يوم صحة الاستنتاج الذي يقول إن انكسار القطب الأوحد بعد الفيتو الروسي -الصيني الأول، وتكريس بداية تراجعه لا يعني بعد، الانتصار النهائي عليه، وهو يتطلب تغييراً جذرياً في ميزان القوى العالمي لمصلحة قوى الشعوب. إن هذه العملية التي بدأت والمستمرة، ولكنها لم تصل إلى نهاياتها بعد.
وطالما الأمر هكذا فإن انعكاسه على بلادنا خلال الأزمة العميقة الشاملة، كان ليس تدخلاً عسكرياً مباشراً كما حصل في العراق أو ليبيا، وليس تغييراً شكلياً يتنحى الرئيس ويبقى النظام كما في مصر وتونس، وإنما زيادة مستوى التدخل غير المباشر بكل الأشكال والذي يستهدف هذه المرة ليس النظام فقط، وإنما الدولة والكيان السوري و وحدة مجتمعه، وبالتالي كبح عملية التغيير الحقيقي.
إن مجرى الصراع الجاري في سورية هو محصلة تناسبات القوى المركبة والمتداخلة على المستوى الدولي والإقليمي والداخلي، وهذه المحصلة حتى هذه اللحظة هي محصلة صفرية، أي أن هنالك توازناً محدداً لا يمكن لأحد حتى الآن أن يقفز موضوعياً فوقه:
فعالمياً استطاع وزن روسيا والصين وحلفائهما أن يمنع التدخل المباشر لكنه كما يتبين حتى هذه اللحظة غير كاف لحسم الصراع باتجاه الحل السياسي الذي سيسمح للشعب السوري بتقرير مصيره بنفسه،
وإقليمياً استطاعت إيران وحلفاؤها في المقاومات العربية ومستفيدة من الوضع الدولي الجديد أن تمنع المتعهدين الثانويين للإمبريالية الغربية وخاصة الأمريكية من تحقيق أهدافها السياسية من وراء دعم عملية التسلح و بعض المسلحين.
أما داخلياً فهناك توازن معين يمنع أي طرف - حتى بالاستناد إلى تحالفاته الدولية والإقليمية - من حسم الصراع لمصلحته...
وكل الكلام الذي يقال اليوم من هذا الطرف أو ذاك عن ضرورة الحسم العسكري هو هراء، و وهم وقبض للريح يعبر عن رغبات لا تستند إلى أية وقائع موضوعية، وخطورة هذه الرغبات في ظل التوازنات أعلاه أنها تدفع إلى إدامة الاشتباك والمزيد من هدر وسفك الدم السوري مع كل المخاطر التي تحملها هذه العملية على حاضر ومستقبل سورية وشعبها...
وهي موضوعياً تصب الماء في طاحونة الخطة الأمريكية - الإسرائيلية التي تريد إما إلغاء الدور الوظيفي لسورية أو حتى إزالة سورية كلها من الوجود كوحدة جغرافية – سياسية.
إن خطورة الترويج لفكرة الحسم العسكري رغم الانتصارات الجزئية التي يمكن أن يحققها هذا الطرف أو ذاك، هنا أو هناك، في ظل استحالة الحسم العسكري الشامل، تكمن في أنها تقلل من شأن الحل السياسي بل تبعده عملياً وتدفع به إلى الوراء، وهي جريمة كبرى ترتكب بحق الشعب السوري في وضح النهار من أطراف تدعي الدفاع عنه.
كما أن خطورتها تكمن أنها تدخل في عكس السياق الذي يعمل عليه الأصدقاء الدوليون والإقليميون لسورية، الذين يهيئون اليوم لمبادرة سياسية قوية تستند إلى فكرة هدنة مؤقتة لثلاثة أشهر تبنتها طهران مؤخراً. إن الهدنة اليوم، بما تعنيه من وقف للعنف و وقف لإطلاق النار هي ضرورة ليس فقط سياسية يمكن أن تنعش الحلول العاقلة والسلمية للأزمة السورية، وإنما أيضاً ضرورة إنسانية لإنقاذ الكثير من السوريين الذين اقتربوا في مناطق عديدة من حدود الكارثة الإنسانية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى بسبب تقطع أوصال البلاد وتعذر النقل والخطر الذي يهدد استمرار الحياة العادية بأبسط مستوياتها.
إن المناخ الشعبي يتسع لمصلحة الحل السياسي البعيد عن العنف يوماً بعد يوم، كما أن القوى العاقلة في جهاز الدولة وفي المعارضة يقوى ساعدها يوماً بعد يوم، أي أن الظروف أصبحت مواتية أكثر من أي وقت مضى لمبادرات سياسية شجاعة توقف العنف وتذهب إلى المصالحة الوطنية الحقيقية على طريق بناء سورية الجديدة التي ستصبح قبلة لكل الشعوب العربية، والتي ستفرض على الإمبريالية العالمية في عصر تراجعها نموذجاً جديداً في حل المشاكل الداخلية بعيداً عن التدخل الخارجي بكل أشكاله ومحققة حق الشعب السوري في تقرير مصيره بنفسه، وإنجاز التغيير الديمقراطي الجذري الشامل بكل معنى الكلمة، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن.