عن وهم الحسم العسكري..

عن وهم الحسم العسكري..

خاضت البشرية منذ دخولها نفق الطبقية الآلاف من الحروب، هذه الحروب لم تكن نزهاً أو محاولة لبعض البشر للشهرة وإثبات الذات، بل كانت تعبيراً مكثفاً عن المطالب الاقتصادية للطبقات المالكة الحاكمة بفرض سيطرتها والخلاص من أزمات أنظمتها الطبقية ونهب ثروة الشعوب وضرب القوى المنتجة.

كانت المحاولات المتكررة لكثير من المفكريين لتفسير ظاهرة الحرب تسقط أمام الفكر الشعبوي الذي حاول تفسير الحرب بنتائجها لا بأسبابها الموضوعية خاصة تلك الحروب التى نشأت في الفترات الحديثة في أعقاب انتصار الرأسمالية وسوادها بالمجتمع كتشكيلة اقتصادية اجتماعية. إلى أن جاءت المدرسة الكلاسيكية الانكليزية ومن روادها أدم سكيث وديفد ريكاردو وعلى رأسهم ماركس الذين اكتشفوا لأول مرة في التاريخ نظرية فضل القيمة الناتجة عن رأس المال المتغير، وهو قوة العمل. إضافة لاكتشافهم التفسير الأولي للأزمات الاقتصادية الرأسمالية وتوالي الحروب فيما بعدها كتعبير عن ارتباط الازمة بالحروب التى تشنها بعض الدول على الأخرى. فكيف تكون الأزمة مقدمة للحروب؟

تعد الأزمات الاقتصادية الصغرى والكبرى نقاط انعطاف سياسية في جسد النظام الرأسمالي العالمي، فالأزمة تعني وصول التناقض بين مكونات المجتمع الرئيسية (رأس المال _العمل ) إلى حد لا يمكن للقوى العاملة أن تتطور وتنمو ورأس المال إلى مرحلة لا يستطيع الحصول على نمو في فضل قوة العمل الناتجة عن نمو القوى المنتجة، والأزمة هي من حيث المضمون رغبة رأس المال في الحصول على أكبر قدر ممكن من فضل القيمة مما يؤدي إلى تقليص حجم الأجور الحقيقية الذي سيضعف الاستهلاك الشعبي العام على مستوى النظام كله ويضعف الطلب أي إن إمكانية تصريف البضائع ستقل وستعيش البلاد كساداً عاماً في معروض المنتجات والخدمات، وعندها لا بد من الحروب التى توسع السوق وتضمن تصريف البضائع والحصول على الطاقة من منابعها.

كشفت الأزمة الرأسمالية العالمية التي بدأ الحديث عنها في عام 2008، وهي في الواقع قبل ذلك، أنها نموذج عملاق للأزمات الاقتصادية، حيث أنتجت حربيين في العراق وأفغنستان إلا أنها أدت إلى ضعف شديد في المركز الامبريالي الذي ما عاد قادراً على توجية الأوامر نفسها للتنفيذ، وهذا يعني أن الفكرة السياسية المدمرة لحياة الشعوب قد ضعفت لتخرج فكرة مناقضة لها تماماً وهي فكرة الحوار السياسي بين مختلف القوى السياسية لبناء النموذج الجديد وحل الأزمات التى تواجه العالم، وكانت الأزمة عاملاً ضاغطاً زاد من منسوب الاحتقان الشعبي العالمي لتعم المظاهرات عدة مدن ضد هذا النظام ويبدأ الحراك الشعبي في عدة دول منها سورية.

لا تقع سورية على المريخ أو في القمر بل هي جزء من هذا العالم تتأثر بالمنظومات الفكرية العالمية، فالقوى السياسية في هذه الدول قد تبنت هذا الاختلاف في وجهات النظر العالمية ليخرج منها قوى سياسية تدعو أجزاء منها الى إسقاط (النظام الحركة الشعبية) بالعنف وبقوة السلاح، وإلى الحسم العسكري مقلدة في ذلك العالم القديم الذي تعود على حل أزماته  بالطريقة نفسها، وخطاب سياسي عقلاني آخر يحاول إخراج سورية والمنطقة من إمكانية الانفجار الكبير الذي ستشنة الرأسمالية عاجلاً أو آجلاً للخروج من أزمتها عن طريق بدء الحوار والحل السياسي للأزمة.

عنف أم حوار؟

ما تثبته الحياة يتوقف النقاش حوله، فبعد سنة ونصف من الأعمال العسكرية بين طرفي الصراع التي أخذت شكلاً دورانياً حلزونياً يتصاعد منذ بابا عمر حتى وصلنا إلى ساعة الحسم والصفر والتطهير التي لم تنتج إلى الآن أي حسم وإنما زادت الأمور تعقيداً وأخذت البلاد والعباد إلى بدايات حرب أهلية، القوى السياسية المتشددة بالنظام التي تنتمي إلى الفضاء السياسي القديم كانت قد أقدمت مباشرة على محاولة حسم الصراع وإسقاط الحركة الشعبية والضرب بيد من حديد بدءاً من درعا في الشهر الأول للصراع، ولم تنجح العملية واستمر الحراك وارتفع منسوب العنف ومن ثم بانياس ولم تنجح وأيضاً ارتفع منسوب العنف ولم تسقط الحركة الشعبية مروراً بحمص وحماة وعدة مناطق. إلى أن رفعت المعارضة المتشددة التي تنتمي إلى  الفضاء السياسي القديم نفسه الذي ينتمي إليه النظام السلاح بشكل علني أكثر وأعلنت نيتها إسقاط النظام بالسلاح فقالت الحسم في بابا عمر ولم تنجح وارتفع منسوب العنف في دمشق، كانت حاسمة ولم تحسم، وفي حلب الآن فهي أيضاً لن تحسم، لا للنظام ولا للمعارضة فكلاهما لن يحسمها، فهم لم يعوا التغير الكبير في موازين القوى العالمية الذي لن يعطي الحسم لأحد لأن محصلة قدرته على دفع بعض القوى السياسية لحساب أخرى أصبحت معدومة.

الحوار هو الحل: نستطيع مما سبق أن نستنتج أن الحوار بمعنى قدرة الأطراف السياسية على تقديم تنازلات للوصول إلى توافق يبعد شبح الحروب عن البلاد والعباد ويمنع أعداء سورية من الخارج ومن القوى السياسية السورية الموجودة داخل خارج السلطة والتي رفعت شعار الحرب لحل أزمات الغير وأزماتها من الاستفراد بالقرار السياسي للبلد. وهذا الحور يحتاج إلى خطوات عملية لخلق مناخ ملائم له

-1 تحييد القوى الفاسدة والمتشددة واللاوطنية بالنظام والقوى اللاوطنية في المعارضة التي أثبتت عدم قدرتها على الحل بسبب تورطها بالتعامل مع مثيري الحروب العالمية

-2 إطلاق سراح المعتقليين السياسين على خليفية الأحداث ممن لم تتلوث أيديهم بالدماء السورية

-3 إسقاط كل السلاح الاشرعي وإبقاء سلاح الجيش العربي السوري فوق كل سلاح

-4 البدء بحل أزمات الناس المعاشية المستعجلة التي من شأن حلها أن يخفف من حدة التوتر العام

عندها فقط يمكن الذهاب للحوار كبديل عن العنف وبدء عملية التغير الحقيقي..