نقد الحراك من موقع الدفاع عنه
إنّ الحرص على الحراك الشعبي يتطلب بالضرورة نقده, والإضاءة على أخطائه التي هي أمر طبيعي موضوعياً لأنّه كتعبير عن المجتمع يحمل كلّ ما في هذا المجتمع من خصائص تاريخية موروثة بحسناتها وسيئاتها, ويختلط كثيراً ما هو تقدمي مع ما هو رجعي. وبالتالي لا بدّ من أي ناقد تقدمي أن يواجه أبناء الحركة الشعبية ويناقشهم بصراحة وشجاعة من باب الحس العالي بالمسؤولية, الأمر الذي يصبّ في خدمة الحراك. وما النتائج الضارة على الحراك السلمي وعلى أهدافه المشروعة والتي ظهرت بسبب توريطه بالتطرف والتسلح.. إلا دليل على صحة هذا الموقف, وعلى خطورة «الإرهاب الإعلامي» والتخوين والإقصاء الذي مارسه المتشددون ضدّ كلّ نقد بنّاء لأخطاء الحراك واعتباره اصطفافاً مع النظام.
لم يعد ممكناً إنكار ما ظهر مؤخراً من مزاج شعبي جديد يعكس حالة استياء وغضب المواطنين المدنيين, المعارضين منهم والموالين, من ممارسات المعارضة المسلحة وتلطيها خلف المدنيين وتوريط أحيائهم في عنف الاشتباكات مع قوات الجيش العربي السوري, وما جرّه عليهم ذلك من أضرار مادية وبشرية, وتهجير ومعاناة, وحتى الأطراف المتشددة في صفوف المعارضة السلمية, أصبحت تتذمّر من الأخطاء المرتكبة والتطرف في الحراك, ولاسيما إزاء التكفيريين والمتعصبين طائفياً, وإزاء التسلح ونتائجه الهدّامة, وبالفعل أخذ جزء من الحراك السلمي المعارض يعبّر عن هذا التحوّل عبر شعارات جديدة تتناسب مع هذه الدرجة الأعلى من نضج الحراك الشعبي, فبدأنا نرى تظاهرات ترفع شعارات من قبيل «الشعب يريد إسقاط السلاح»..
تكمن أهمية هذه النقلة في تطور الحراك الشعبي في سورية في كونها تشير إلى أنّها مقبلةٌ على أن تزداد تنظيماً ووعياً سياسياً, وبالتالي قوّة وتأثيراً في مجريات الأزمة السورية, وآفاق حلّها, لأنّ النقد الذاتي الذي بدأت تمارسه على الأقل في بعض المواقع حتى الأن, إنما يعني أنها أخذت تتعلم من أخطائها, وتحاول تصويبها, وتدقيق أهدافها, وتبحث عن أدوات نضالية أكثر ملاءمة وجدوى.
إنّ تزايد رفض المواطنين السوريين عموماً للعنف والاقتتال الأهلي, وتحوّل المزاج لدى جزء كبير من المعارضة الشعبية إزاء «الجيش الحر», من مناصر له أو حيادي, إلى رافض ومستاء منه, هو أمرٌ إضافةً إلى كونه يعبر عن خصوصية العمق الحضاري التاريخي للشعب السوري بخصائصه المحبة للعيش بسلامة وكرامة وتسامح, فإنه يعكس كذلك وصول المعارضة المسلحة إلى مأزق أمام جمهورها المفترض, يشبه إلى حد كبير المأزق الذي وصل إليه أيضاً مسلّحو «المولاة» أمام جمهورهم المفترض - وأقصد بمسلحي «الموالاة» الجهات المسلحة المدعومة من قوى الفساد بالنظام تحت مسميات مختلفة أحدها «اللجان الشعبية». ويتمثّل المأزق المشترك بأنّ جميع هذه الميليشيات المسلحة لم تفشل فقط في حماية المواطنين الذين تقاتل باسمهم, بل ألحقت بهم أضراراً جسيمة في الأرواح والممتلكات, وزادت الأزمة تعقيداً, عبر تحميل المجتمع السوري ومؤسساته وبناه التحتية أعباءً إضافية هدّامة, وخاصة على المستوى الأمني والمعيشي. وبما أنّ الدفع نحو تعميق الأزمة السورية وعرقلة حلّها هو هدف أساسي للعدو الأمريكي-الصهيوني, نستنتج بأنّ كلّ الجهات السالفة الذكر, وبغض النظر عن نواياها, إنما يصب سلوكها في خدمة مشاريع أعداء الشعب السوري, مهما أغلظت الأيمان حول دفاعها عن «الثورة», أو دفاعها عن «النظام», فالتاريخ يعلمنا أنّ كثيراً من الحركات الشعبية أو الثورات قد استفاد منها أعداؤها أكثر مما استفاد صانعوها, فالثورة العربية, على سبيل المثال, والتي قامت من أجل الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية, حوّلها الغرب الأوروبي الاستعماري وعملاؤه, إلى أداة لتداول السلطة من يد مستبد عثماني قديم, إلى قبضة الاستعمار الأوروبي الجديد السايكس-بيكوي.
إنّ العيش بأمان واستمرار سبل الحياة الكريمة يعدّ همّاً مشتركاً يجمع كلّ المواطنين السوريين, وتزعزع هذه المصالح الحيوية بشدّة في ظل الأزمة بشكل عام, وأثناء موجة العنف الأخيرة بشكل خاص, كونها ضربت أهمّ مدينتين في البلاد, وعقدتي الحياة فيها - دمشق وحلب - كان لا بدّ أن تسبب هذه الهزّة مراجعة السوريين, وعلى اختلاف آرائهم, لمواقفهم السابقة, وخاصة المواقف المتشددة لدى كل الأطراف, والمتخندقة ضمن اصطفافات وهمية تتناقض مع المصلحة الوطنية العامّة, الحقيقة التي بدأ السوريون يدركونها أكثر من تجاربهم الخاصة عبر عمر الأزمة, وربما تكون بوادر استعادتهم لخيارات النضال السلمي الوطني المستقل والرافض لتدخلات الأعداء في الخارج والداخل, مؤشراً يؤكّد على التطابق الموضوعي في نهاية المطاف بين المصالح المرحلية المباشرة المتعلقة بالعيش الكريم والآمن للمواطن من جهة, والمصلحة العليا للوطن المتعلقة باستقلاله ووحدته الجغرافية والسياسية.