الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير.. وضمانات التغيير الوطني
أسامة الحكمي أسامة الحكمي

الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير.. وضمانات التغيير الوطني

تدور أيام الأزمة السورية بمصائبها ومصاعبها على رؤوس السوريين، ولا تحمل إليهم إضافة إلى الموت والدمار سوى برهان يوميً يلحّ على أنّ المخرج الوحيد الآمن، كان ولا يزال وسيبقى الحوار السوري - السوري والحل السياسي الوطني الشامل، مهما تصلّبت وتشنّجت أصوات ورؤوس التيار المعاكس، بروافده المتشددة في النظام والمعارضة، والذي أصبح اليوم أكثر من أي وقت مضى نشازاً مقيتاً ومكروهاً من الأغلبية الساحقة من المواطنين السوريين العاديين الذين طال انتظارهم لخلاصهم وخلاص وطنهم من هذه المحنة.

ومع كلّ اقتراب لهذا الأمل، ومع كلّ تحرك سياسي يتناول قضية الحوار, لا بدّ من تذكير كلّ من يهمه الأمر بأنّه إذا كانت سمة الواقع الموضوعي الوصول إلى التوازنات الدولية والداخلية الحالية بشأن الأزمة السورية، هي من دفعت معظم قوى الفضاء السياسي القديم داخل النظام والمعارضة دفعاً، سواء شاءت أم أبت إلى خيار الحوار، فإنّ طلائع قوى الفضاء السياسي الجديد قد استشرفت هذا المآل استباقياً، ودعت إليه منذ بواكير الأزمة، تلك القوى التي جمّعت نفسها في التحالف السياسي الذي تشكل باسم «الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير» في التاسع من تموز عام 2011، والتي ضمت أكثر من ثلاثين مكوناً سياسياً، أكبرها حزب الإرادة الشعبية، والحزب السوري القومي الاجتماعي.

تذكير ببعض مواقف الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير

مع التجاهل أو التعامي المقصود من أصحاب العقليات الإقصائية من قوى فضاء النظام السياسي القديم ومعارضته، إزاء الجبهة الشعبية كمكون وطني، لعب دوراً هاماً على المستوى السياسي معرفياً وشعبياً منذ بداية الأزمة، لا بدّ من تذكيرهم بأنّها كانت أول من دعا وشارك بالتجربة الحوارية الأولى(اللقاء التشاوري 10-11 تموز 2011) بعد تشكيلها مباشرةً، وعملت جهدها لإنجاحه، وساهمت بصياغة مقرراته، وعندما تهاونت الدولة والجهات السياسية المعنية وتلكّأت وتنصّلت من تطبيق بنوده، حذّرت الجبهة الشعبية من عواقب ذلك، وضاعت واحدة من فرص حلّ الأزمة حينها، ولحقتها فرصٌ كثيرة أخرى، كانت الجبهة تدرك أهمية عدم تضييعها في كلّ مرة، لكنّ جمود الوعي السياسي لدى القوى الأخرى جميعها نظاماً ومعارضةً، والتي أصرت على أوهام الإسقاط والحسم والسحق وكسر العظم، جعلتهم يتصارعون ويصعّدون العنف ويدخلون البلاد والعباد في دوامة من النزيف المستمر بشرياً ومادياً.

وعندما اتخذ الفيتو الروسي- الصيني المزدوج الأول مؤشراً لبداية الانعطاف التاريخي الجديد في الموازين الدولية لصالح قوى الشعوب عامة ضدّ مصالح الإمبريالية الأمريكية أدركت الجبهة أهمية ذلك ووضّحت أهمية الاستفادة الصحيحة منه في بلاغها (7 شباط 2012): «إن الحل ينبغي أن يكون سورياً خالصاً، وهذا ما يتطلب من النظام الحاكم البدء بالحل السياسي فوراً، الذي يجد تعبيره الملموس اليوم في إقامة حكومة الوحدة الوطنية ذات الصلاحيات الواسعة، والقادرة على إيجاد مخرج آمن للأزمة عبر وقف نزيف الدماء السورية بسبب العنف والعنف المضاد، وإجراء حوار وطني شامل تشترك فيه كل القوى الوطنية في البلاد، في النظام والمعارضة والحركة الشعبية السلمية.  ونؤكد مرة أخرى أن التأخر بالشروع في الحل السياسي هو خدمة لكل القوى التي تستهدف سورية كوطن وشعب، ويعرقل حتى الاستفادة من الظرف الدولي الناشئ بعد صعود قوى دولية تحاول لجم العربدة الأمريكية وأتباعها في العالم.»

ونأت الجبهة بنفسها عن الدخول في دوامة الاتهامات المتبادلة دون تحقيق موضوعي، وارتأت الارتقاء إلى مستوى المسؤولية الوطنية فيما يتعلق بأحداث العنف المتلاحقة التي يذهب ضحيتها أبناء الشعب السوري من مدنيين وعسكريين، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر ما ورد في تصريحها حول مجزرة الحولة بعد أن الإدانة والعزاء لأهالي الضحايا: «ومن الناحية السياسية فإن القوى التي تتحمل المسؤولية عن نزيف الدماء السورية هي كل القوى المتطرفة سواء كانت في النظام أو المعارضة التي تمنع الحل السياسي، ومن هنا فإن الجبهة تؤكد مرة أخرى، بأن الحل يكمن في البدء بعملية سياسية شاملة، والوصول إلى المصالحة الوطنية عبر حوار وطني حقيقي، وفتح الطريق أمام الشعب السوري وقواه الوطنية كي تلعب دورها من أجل حماية الوطن، وحقه المشروع في التغيير الوطني الديمقراطي الجذري الشامل، لأنه من خلال ذلك فقط يمكن معالجة تلك البيئة التي ترتكب فيها مثل هذه الأعمال الجبانة.» 

وانطلاقاً من حرصها وتمسكها بخيار الحوار والمصالحة سبيلاً وحيداً لحل آمن للأزمة الوطنية العميقة، أبدت الجبهة كثيراً من المرونة السياسية التي تعتبر بنفس الوقت صلابة وطنية، رغم أن ردّ القوى السياسية الأخرى في كثير من الأحيان لم يرتقِ إلى المسؤولية الوطنية التي تتطلبها خصوصية الأزمة.

فرغم اعتراضها على قانون الانتخابات ومطالبتها بقانون عصري جديد على أساس الدائرة الواحدة النسبية، إلا أنها شاركت في انتخابات مجلس الشعب، والتي كان ممكناً أن تكون فرصة استعادة ثقة للشعب بجهاز الدولة، ولكنّ هذا الأخير فشل في الامتحان مجدداً، مؤكداً من جديد على فساد قانون الانتخاب، عدا عن عجزه عن أي تغيير حقيقي إذا لم يتخلّص من مافيات الفساد الكبير داخله.

وبالمثل كان خيار المشاركة في الحكومة، على أساس الاتفاق على البيان الحكومي، من باب عدم تضييع أية إمكانية أوفرصة لتغيير ظروف الأزمة، من حكومة وحدة وطنية بمن حضر، إلى حكومة وحدة وطنية شاملة ما تزال مأمولة لمّا تتحقق بعد.

حسن النية والمسؤولية الوطنية

نذكر هنا من بين عدة مناسبات بما جاء في البلاغ الصادر عن الجبهة بعد مبادرة «هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الوطني والديمقراطي في سورية» والمؤرخ في 17/8/2012: «.. إننا في الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير نرى في هذه المبادرة تحقيقاً لنقاط توافق أساسية، نشترك فيها لأنها تحقق مبدأين أساسيين هما: رفض التدخل الخارجي، ونبذ العنف من أي جهة كانت. وعلى أساس هذه المبادرة نرى أن هنالك ضرورة للتواصل مع الهيئة، واللقاء بأسرع وقت ممكن لصياغة موقف توافقي مشترك من أجل مصلحة الوطن، الأمر الذي لا يحتمل أي تأخير أو وقوف عند التفاصيل الثانوية.»، ولكنّ الهيئة التي تسرب إليها على ما يبدو مرض «الحزب القائد» وعقلية المادة الثامنة القديمة، كان لها حسابات سياسية وحزبية أضيق، تشبه حسابات تلك القوى داخل النظام، التي اعتادت أن تمارس الإقصاء نفسه، والجميع يمضي في تلك العادة السيئة في احتكار توزيع شهادات «الوطنية» أو «المعارضة»، على من يشاء، وحجبها عن من يشاء.

وفي هذا السياق يبرز تميّز الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير في تحذيرها من عواقب أخذ الحلّ السياسي في سورية صوب ما حذرنا منه مراراً، وهو ما يسمى الخطة «ب»، أي مسخ الحوار بتحاصص غير سياسي، وغير وطني على حساب الوحدة الوطنية والتغيير الجذري الشامل الحقيقي، إلى مجرد توافق على توزيع البلاد والشعب على كانتونات مفصلة على قياس «مكونات» المجتمع الطائفية والقومية والعشائرية، لن تحقق إلا الحلم الأمريكي ومشروع الفساد الكبير المرتبط به.

اليوم لا بدّ لكلّ القوى السياسية التي تصنف نفسها في الخندق الوطني من أن تحترم الشعب والوطن وترتقي إلى مستوى المسؤولية المطلوب لثقافة الحوار وحلّ الأزمة جدياً، وتحترم بعضها البعض، حتى يحترمها الشعب والتاريخ.