إفتتاحية قاسيون 587: سيناريو اللصوص..
تخلق الأزمات المتتالية التي تستنزف السوريين، مناخاً من التعب واليأس الغرض النهائي منه هو تأمين قبولهم بأي سيناريو للحل وإن كان وهمياً، والمسؤول عن هذه الأزمات هو ذاته الذي يؤخر الحل السياسي من متشددين ومكابرين في الطرفين، التأخر الذي يخدم سيناريو محدداً هو سيناريو واشنطن والمرتبطين بها من جوقات الخارج ولصوص الداخل..
مرّت واشنطن في تعاملها مع الأزمة السورية بمراحل متمايزة من حيث الأدوات، ومتفقة من حيث الهدف المتمثل بإنهاء سورية كدولة موحدة أرضاً وشعباً كحدٍ أعلى، أو الإجهاز على دورها وعلاقاتها الإقليمية وعزلها عن محيطها كحد أدنى.. هذه المراحل هي على التوالي:
مرحلة تبني التدخل العسكري المباشر عن طريق مجلس الأمن أو من خارجه، عن طريق الناتو. وكان من أدوات هذه المرحلة «معارضة» اسطنبول، على غرار المعارضة العراقية ما قبل الاحتلال، وبات معروفاً الآن أن هذه المرحلة انقضت إلى غير رجعة نتيجةً لتوازن دولي ناشئ منع التدخل المباشر. وبعد إصرار محور «البريكس» على منع تمرير التدخل المباشر، والتجاذبات التي حدثت إثر ذلك واستعراض القوة المتبادل، انتقلت واشنطن إلى مرحلة التدخل غير المباشر بهديٍ من إبداعات «إحراق سورية من الداخل»، وذلك عبر تسعير القتال على الأرض إلى أقصى حدوده، من خلال الإصرار على نهج التسلح والعنف من جهة، ومن خلال نشاط ميليشيات الفاسدين المحسوبين على النظام من جهة أخرى، أي النشاط المطلوب منه تكريس طابع طائفي وعرقي على الصراع الجاري..
ولما كانت الأزمة الرأسمالية العالمية وعلى رأسها الأزمة الأمريكية تحتاج بشكل ملح أكثر فأكثر حلولاً سريعة، ولما كان تقدم الزمن عاملاً في غير مصلحة أمريكا لجهة تراجعها المستمر مقابل تقدم خصومها، فإن شكلاً ما من التسوية أصبح ضرورة ملحة قبل خسارة المعركة كاملةً، شكلاً ذكياً من التسوية يتفق مع التوازن الراهن، ويحوي داخله منظومة إعادة إنتاج الأزمة وتحقيق الأهداف التي لم يحققها ميزان القوى الحالي.. عند هذا الحد نستطيع القول إن الانتقال قد بدأ فعلياً إلى المرحلة الثالثة التي سبق وأسميناها الخطة «ب»، أو الخطة البديلة عن التدخل المباشر، وقبل الدخول بحواملها وتفاصيلها الحالية، ينبغي الوقوف عند معناها العام..
إذا كانت واشنطن تقف مع «إسقاط النظام»، فلأن هذا الشعار يعني في الظروف الملموسة، وفي ضوء تجربة الأشقاء المصريين والتونسيين، إسقاط الرئيس وإبقاء النظام/ الأنظمة على فسادها وتبعيتها وتخلفها بل وتعميق ذلك بالتوازي مع إسقاط أي توجه وطني معادٍ للغرب. إن استعصاء هذه العملية في سورية فتح الباب على سيناريو جديد يحقق النتيجة نفسها، أي أن المطلوب هو تغيير شكلي في قالب «ثوري»، أي أنه تغيير يبقي الجوانب الجوهرية الاقتصادية- الاجتماعية والديمقراطية على حالها المتردي..
إن جوهر هذا السيناريو، هو اصطفاف الناهبين في الخندق ذاته، ولكن هذه المرة بوصفهم ممثلي «مكونات» سياسية وطائفية وقومية.. الخ، ليعاد تقسيم النهب بينها كلٌ حسب كمّ الدم السوري الذي هدره، في هذا السيناريو يتحالف الفاسدون في النظام مع المعارضة غير الوطنية المتمثلة أساساً في ائتلاف الدوحة. ويتضح الآن أن الزخم المثار حول مؤتمر باريس المزمع عقده يأتي في هذا السياق..
يأخذ البعض على هذا التحليل أنه طبقي في جوهره، وهو كذلك، يرى في الناس ناهبين ومنهوبين. لكن المعترضين على هذه الرؤية لا يخرجون من إطار «البدائل» الطائفية والقومية العفنة.. إن رؤوس الأموال التي شجعت الحل الأمني ستكون أول المنقلبين على «رموز» النظام الحالي، وسنسمع صوتها في جوقة واحدة مع أصحاب رؤوس الأموال التي حرمت من نهب السوريين خلال العقود الماضية لمصلحة ناهبين آخرين، سنستمع منهما إلى طروحات الديمقراطية التوافقية الطائفية، اللبنانية والعراقية، وستقدم التضحيات التي بذلها السوريون على مذبح التحاصص بين شيوخ النهب ذوي القبعات المختلفة..
إن جوهر السيناريو المطلوب هو تغيير شكلي للنظام، يقدم مخرجاً وهمياً من الأزمة الراهنة، ولكنه يبقي سورية على تخوم الأزمة، ويبقي احتمال انفجارها قائماً في كل لحظة، وإن استبعاد الفقراء وممثليهم من الحوار القادم ومن الحل السياسي القادم هو شرط أساسي لتحقيق هذا السيناريو، لأن لهؤلاء فهماً واحداً لطريقة الخروج من الأزمة، فهماً يرى الخروج من خلال تغيير جذري عميق في بنية النظام، تغيير يضع لصوص الطرفين في أماكنهم المناسبة.. حيث يستحقون.