ما وراء التصريحات

ما وراء التصريحات

تتوالى التصريحات الحكومية المكثفة لبعض المسؤولين الاقتصاديين في إطار التحضير للخطة الخمسية الحادية عشرة.. ويلفت الانتباه فيها خلال الأسبوع الأخير أمور عديدة، سنتناول منها الآن أمراً واحداً لما له من أهمية:

ـ أن الخطة الخمسية العاشرة مكنت البلاد من تفادي أزمة خطيرة كانت مقبلةً عليها لو لم تقم بما قامت به..

في بادئ الأمر يجب القول إن التأكيد بصورة افتراضية بصيغة «لو» هو تأكيد افتراضي فقط لا غير ولا يمكن إثباته بالوقائع، وهو يخلط بشكل مقصود السبب والنتيجة.. فالتلويح بخطر أزمة خطيرة تم تفاديها هو مجرد قنابل دخانية، هدفها تغطية «السموات بالقبوات»، لعدم التعرض إلى الأزمة الواقعية والتي يمكن أن تتحول إلى خطيرة، والتي أدخلت الأشكال التنفيذية للخطة العاشرة البلاد إليها، فلنترك الوقائع تتحدث عن نفسها:

ـ هل ازدياد مساحة الفقر وتعمقه بالمقارنة مع ما قبل الخطة هو تعبير عن أزمة أم لا؟

ـ هل ازدياد التشوه في بنية الاقتصاد السوري لمصلحة القطاعات غير الإنتاجية من مال وتأمين وعقارات وسياحة، هو أزمة أم لا؟

ـ هل الوصول إلى أرقام نمو متواضعة جداً، ومشكوك بها أصلاً من حيث دقتها، هو أزمة أم لا؟ في ظل وضع إقليمي ملتهب يتطلب تقوية بنية الاقتصاد السوري.

ـ هل فقدان الأمن الغذائي عملياً وتراجع الزراعة هو أزمة أم لا؟

ـ هل وضع بعض مؤسسات قطاع الدولة الاستراتيجية الرابحة تحت سيف الخصخصة الجائرة، ولو كانت تحمل أسماء حركية مختلفة، وخاصةً المرافئ والمطارات والكهرباء وغيرها، هو تعبير عن أزمة أم لا؟

ـ هل تحويل جزء هام من التعليم العالي إلى القطاع الخاص أزمة أم لا؟ في وقت كانت سورية تفتخر بمجانية التعليم بكل مراحله والذي أوصلها من حيث قدراتها البشرية إلى ما وصلت إليه اليوم..

ـ هل تراجع دور الدولة في القطاع الصحي أزمة أم لا؟

ـ هل ارتفاع معدلات التضخم الفعلية عن المعدلات المعروفة تاريخياً في البلاد هو أزمة أم لا؟

إن كل ذلك لم يجر في بلد آخر وفي زمان آخر، إن كل ذلك جرى في عهد الخطة الخمسية العاشرة!.

لذلك، يطرح سؤال هام جداً نفسه هنا: ما معنى التهديد الذي يساق بأنه لو لم يجر تنفيذ هذه السياسات التي أوصلتنا إلى ما ذكر أعلاه، كان سعر الليرة السورية مقابل الدولار سيصل إلى 200 ليرة سورية؟

إن كل عارف ببواطن الأمور يعلم حق العلم أن الذي يمكن أن يحدد سعر صرف الليرة هو جهتان لا ثالث لهما؛ إما الدولة والتي تستخدم مصرفها المركزي واحتياطيها من العملات الصعبة للحفاظ على سعر معين لليرة، والليرة غير مهددة من هذه الزاوية بتاتاً.. وإما قوى الضغط الدولية الخارجية- أجنبيةً كانت أم عربيةً- والتي باستطاعتها أن تضغط على الليرة وأن تدفعها نحو 200 ليرة مقابل الدولار، في حال استطاعت تحقيق الأمور التالية:

ـ قطع علاقة مصارف الدولة السورية مع الخارج عبر حصارها عالمياً، وهذا ممكن نظرياً تحت ستار أية حجة سياسية، وهي كثيرة إن أرادوا.

ـ عرقلة تصدير النفط السوري إلى الأسواق الخارجية، وهذا أيضاً ممكن نظرياً، بحال جرى حصار للبلاد، ومثال العراق سابقاً دليل على ذلك.

ـ إغراق الأسواق المجاورة بالليرة السورية المخزنة في بعض البنوك العربية الكبرى، هذا ممكن أيضاً وقد جرى تجريبه جزئياً في مرات عديدة.

إن دراسة الاحتمالين تقودنا إلى التالي:

• حتى لو ترك الاقتصاد السوري بمنظومته القديمة دون الإصلاحات التي أجرتها الخطة العاشرة، فهو كان قادراً ولو بفعالية أقل من السابق على الحفاظ على سعر الليرة، أي على مناعة الاقتصاد السوري..

•  لذلك يبقى الاحتمال الثاني، أي احتمال التدخل الخارجي لإضعاف الليرة السورية هو الاحتمال الأكثر واقعيةً في ظروفنا الملموسة.

أي إن الذي يقول اليوم إنه أنقذ الليرة السورية إنما هو يقول عملياً: أمامكم حلان لا ثالث لهما؛ إما تنفيذ سياستنا الاقتصادية (أي الانهيار التدريجي البطيء) وإلا فتحنا عليكم أبواب جهنم من الخارج (أي الانهيار المتسلسل السريع).

إن الإجراءات التي يدفع باتجاهها الفريق الاقتصادي هي التي تضعف الوضع الاقتصادي السوري بشكل متدرج وبطيء، وصولاً إلى إنهاك بنيته الإنتاجية الفاعلة، وزيادة تشوه بنيته بشكل عام، وصولاً بعد ذلك إلى الاقتراض من الخارج ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً بهدف تخفيض احتياطي العملات الصعبة، ما يجعل الاقتصاد السوري مكشوفاً نهائياً.. ولو بعد حين!.

إن التفاخر بالسلبيات والتطبيل للإنجازات الوهمية، لن يغير من المعطيات على أرض الواقع، ولدى الشعب السوري وقواه الوطنية كل الإمكانيات لتكنيس هذه السياسات وإسقاطها حفاظاً على كرامة الوطن والمواطن..