عن اللقاء اليساري العربي في بيروت قدرة اليسار على الفعل مرتبطة بقدرته على تجاوز أزمته.. لنتفاءل!
يسجّل للحزب الشيوعي اللبناني في إطار نشاطاته في الذكرى 86 لتأسيس الحزب، دعوته لعقد اللقاء لليسار العربي كما تقدر الاستجابة المسؤولة من أحزاب وتنظيمات يسارية رأت في الدعوة حاجة عربية واقليمية لمواجهة التحديات التي تتعرض لها المنطقة العربية بأسرها. حيث يشكل البعد العربي في برنامج اليسار العربي أهمية مضاعفة اليوم فالمشروع الأمريكي الاستراتيجي ينظر الى المنطقة ككل متكامل. لكنني أستعجل بعض الملاحظات من وجهة نظري الخاصة على المؤتمر ونتائجه.
تنشر بشكل متزامن مع الشقيقة «النداء»
أولاً: في عناوين الأوراق المقدمة الى اللقاء من الحزب الشيوعي اللبناني
في المداخلة الإفتتاحية للأمين العام للحزب د. خالد حدادة قال وهو يتكلم عن المواجهة: «أين هو اليسار في هذه المواجهة؟ أين هو مشروعه للخروج من أزمته، باختصار شديد نحن اليوم أمام يسار تخبط بأزمته وراضٍ بدور نخبوي».
من هذا التوصيف لليسار، كان ينبغي أن تكون «أزمة اليسار العربي وواقعه الراهن» هو العنوان الرئيسي للبحث قبل أن تطرح عناوين المواجهة والنضال الطبقي والوطني. فلا كلام عن يسار مأزوم دون مرور على الأحزاب الشيوعية المأزومة. فإذا كان هذا اليسار وأحزابه مأزومين إلى درجة يفتقدون فيها الوزن والدور والتوازن، فهل يؤهلهم واقعهم هذا القيام بدور المواجهة للمشاريع الأمريكية ـ الصهيونية الاستراتيجية للمنطقة بالمستوى المطلوب؟.
وبديهي القول إن قدرة اليسار العربي على تفعيل دوره مرتبطة بقدرته على تجاوز أزمته...
ثانياً: إن الانطلاق من تقييم ونقد التجربة السابقة كان له الأولوية لعمل تأسيس ليسار جديد. لأن المؤتمرين لا ينطلقون من فراغ، فلدى كل منهم تجارب غنية في العمل السياسي وفي جعبة كل منهم تراث ثوري وتحرري مجيد.
ثالثاً: إن تجربة لم تحقق أهدافها خلال أكثر من ستين عاماً تستحق أن نقف عند إخفاقاتها، حيث بات اليسار العربي اليوم في المواقع الخلفية من التأثير السياسي على المستويين القطري والقومي. وكان على اليساريين أن يقدموا إجابات واضحة ومسؤولة عن مرحلة طويلة من القرن الماضي تصدروا فيها القيادة الطبقية لحركة التحرر، وطرحوا أمامهم مهمة التغيير الاشتراكي بديلاً للأنظمة القائمة.. أحزاب بلغت حداً من التنظيم والجماهيرية دون أن يكون لديها الجرأة في طرح موضوع (السودان ـ العراق) فدفعت الثمن مرتين بعد فشلها.
وأعتقد أن قيادة الاحزاب اليسارية كانت تدرك أن حلمها لن يتحقق لأنها تعي أنها تطرح حلولاً متقدمة جداً (الاشتراكية) لواقع اجتماعي متخلف جداً لا يتقبل مثل ذلك التغيير.. (هل هذا تفصيل في تاريخ التجربة اليسارية العربية)؟
ومن العوامل الأخرى التي كانت وراء إخفاقات التيار اليساري، الميل إلى المهادنة الأيديولوجية أحياناً، والتبعية المطلقة للاتحاد السوفياتي وتبني نظريات المدرسة السوفياتية بما فيها عن منطقتنا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر نظرية «التطور اللارأسمالي لبلداننا» دون أن ننسى ذيلية بعض الأحزاب، ودون أن نغفل غياب العلمنة وتحرر المرأة وحقوق الإنسان من برامج الأحزاب اليسارية. لكن اليسار الذي أخفق في تحقيق أهدافه الاستراتيجية كان قد حقق قضايا ومطالب هامة للفئات الشعبية (حقوق ـ ضمانات ـ نقابات ـ روابط ـ قوانين ـ جامعات وطنية ـ مقاومة ـ تحرير...الخ).
وشكلت هزيمة 1967 منعطفاً هاماً في الكثير من توجهات ومواقف اليسار العربي، فكان سبّاقاً بتبني المقاومة الشعبية خياراً لمواجهة العدو الصهيوني، فشارك بفعالية في الانطلاقة الفدائية الفلسطينية (اليسار الفلسطيني) وفي احتضانهم، وفي تشكيل منظمة الأنصار ومن ثم الحرس الشعبي في نهاية الستينيات على أرض الجنوب اللبناني، وآخرها إعلان الحزب الشيوعي اللبناني ويساريين آخرين قيام جبهة المقاومة الوطنية. ألا تستحق تلك المرحلة التوقف عندها بنقاش هادئ وطويل، وقد قدمت فيها الأحزاب أعظم التضحيات وأغلى الأثمان دون أن تحقق تغييرها أو أن تحجز لها موقعاً في السلطات القائمة؟!
نعم إن الكثير من المتغيرات قد طرأت في العقدين الماضيين، وتبدلت طبيعة القوى التي تقود مواجهة المشروع الأمريكي ـ الصهيوني. ولدى توقفنا أمام المداخلات والمناقشات المؤتمرية، نجد أن عدداً غير قليل من المداخلات لم تلحظ جديداً، وكأن شيئاً لم يتغير، وأننا لا نزال في سياق تاريخي متواصل، وأن الأسلحة التي ينبغي استخدامها هي الأسلحة السابقة نفسها، بينما نحن في مرحلتين مختلفتين ينبغي أن نقر جميعاً بأن مرحلة انتهت وسقطت، ولم تسقط بفعل سقوط المنظومة الاشتراكية فقط ـ ألم نكن نكتب ونتكلم عن أزمة حركة التحرر وأزمة البديل قبل سقوط الاتحاد السوفياتي؟!
إننا أمام واقع ومرحلة جديدة فشلت فيها البرجوازية من تحقيق شعاراتها وأهدافها التي أوصلتها إلى السلطة ودفعت بالمجتمع إلى الوراء وأفشلت عملية التطور الاجتماعي والإنمائي والثقافي لشعوبنا، فأصبحت متماهية مع المشروع الأمريكي ـ الصهيوني (الاستثناء محدود هنا). وترى هذه الأنظمة الحاكمة في بقاء «اسرائيل» دولة قوية حاجة لاستمرار النظام الرسمي. وبتنا أمام دول لا ينطبق عليها مفهوم الدولة الحديثة دول (عائلات، عشائر، إرث سياسي) لا قيمة للقوانين فيها، ولا وجود لمواطنة حقّة، ولا لمؤسسات ديمقراطية، لا بل تعيش في أغلبها حالة من الانقسام والتفتت على أساس طائفي أو مذهبي أو قبلي، وتسودها ثقافة المذاهب والطوائف والإثنيات. دول اقتصادها الحقيقي قائم على الريع وتوزعه عبر سياسات تؤدي إلى إخراج المواطنين من الحيّز السياسي فلا تخضع لمحاسبة أو مساءلة من مواطنيها.
إذا لم تناقش هذه الأمور من منظار نقدي وعلمي وواقعي فلن نهتدي إلى طرح الهدف المرحلي في هذا البلد أو ذاك.
إن بعض المداخلات التي غابت عنها القضايا الأساسية الراهنة والواقع الراهن، ستبقينا كيساريين نعيش (حالة نظرية وانتظارية). إن مواجهة التفتت والطائفية والمذهبية والاثنيات لا يمكن حلّها إلا عبر إقامة أنظمة وطنية ديمقراطية علمانية، وعلى اليسار أن يبدع الدمج بين النضال الطبقي وقضية الوحدة، وبين النضال الطبقي والعلمنة، وإن حلّ إشكالية التحرير والوحدة والعدالة الاجتماعية والعلمنة في إطار النضال الطبقي هي المعيار الجديد لليسار الراهن.
وفي المقابل حصلت مداخلات من نوع آخر، مقدّمة آراء فعّالة ومقترحات واقعية وصورة حقيقية لواقع اليسار وللواقع الاجتماعي وتمرحل الأهداف، فلم تزيّن الأمور، ولكنها غير متشائمة. ونحن اعتقدنا سابقاً أن طرحنا للاشتراكية كبديل يحل كل الإشكالات التي تواجهها مجتمعاتنا اعتباراً من أن الماركسية نظرية معرفية ثورية جذرية لا تقبل أنصاف الحلول، بل تسعى إلى التغيير الجذري، وبالتالي لديها القدرة على حل كل تلك الظواهر التي تعترض مجتمعاتنا، بينما اثبت الواقع أنه معقد أكثر بكثير من النظرية الجاهزة.
وأشير هنا إلى أن أحد الرفاق من المؤتمرين طالبني بتوضيح كيف يطرح الحزب الشيوعي اللبناني (الدولة العلمانية الديمقراطية العادلة) دون طرحه للاشتراكية بديلاً للنظام القائم؟
كما جزم الرفيق مندوب الحزب الشيوعي العراقي بانسحاب آخر جندي أمريكي مطلع العام القادم، واعتبر بأنهم استفادوا من الاحتلال في إطاحته للنظام الدكتاتوري، لكن فات رفيقنا أن ما سيتركه الأمريكي خلفه عراق منقسم إلى طوائف ومذاهب واثنيات، قد تكون أخطر بكثير على العراق واليسار العراقي من صدام حسين ونظامه.
إضافة إلى ما طرحه بعض المؤتمرين حول أوضاع بلدانهم وحول التحالف مع القوى الإسلامية والتباينات حول هذه القضية.
هنا تكمن المسائل المعقدة والرؤى المختلفة، وهذا ما عنيت به أن تكون تلك القضايا هي في أولوية النقاش من بدء أعمال اليسار العربي.
وأذكر بان ماركس قد طرح فكرة منهجية قوامها أنه كلما طالت الفترة الزمنية لبحث قضية ما، أصبح بالإمكان تفادي الوقوع في الأخطاء.
إن ما هو إيجابي في عقد مؤتمر اليسار العربي هو في حصوله وتوقيته، وفي التوصيات الصادرة عنه، لكن الأهم هو في استمراره، ومن الأفضل أن يكون على شكل طاولة مستديرة تتيح الحوار الحقيقي لأكثر من يومين ولمداخلات مفتوحة نسبياً دون الوقوع تحت ضغط الإعلام والبيان الختامي.
إن شروطاً ضرورية مطلوبة لإعادة بناء حركة يسارية عربية.
أن يبدأ كل حزب أو تنظيم يساري من بلده لتوحيد اليسار (الوطني).
أن يعتمد برنامجاً واقعياً قابلاً للتحقق، ويكون وفياً للقيم الثورية وحراً ومنسجماً مع برنامجه السياسي.
أن يعاد الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية نضالية تهم اليساريين العرب جميعاً.
أن يعتمد مفهوم جديد للعروبة والوحدة العربية الشاملة أحد المحاور الرئيسية في برنامج اليسار.
أن تكون الديمقراطية إحدى أهم القضايا المطروحة.
اعتماد المقاومة الشاملة التي تربط القضايا بعضها ببعض.
إن أحزاباً وتجمعات يسارية كوّنت على طريق تجربتها خبرة كافية، وسطرت تاريخاً مشرفاً من النضال الوطني والطبقي، وقدمت الشهداء الكبار أمثال فرج الله الحلو وجورج حاوي وفهد وسلام عادل وعبد الخالق محجوب والشفيع وأبو علي مصطفى وجورج حبش... هذا اليسار قادر موضوعياً على تجاوز أزمته. فهل يرتقي بالذات إلى تحقيق أهدافه؟ فعل اليسار المرتقب يجيبنا- لنتفاءل.
• عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي اللبناني