الافتتاحية: البيان الوزاري.. والأزمة!

الافتتاحية: البيان الوزاري.. والأزمة!

جاء البيان الوزاري المتوافَق عليه، ليلبي ولو نظرياً حتى الآن متطلبات الحد الأدنى من طريقة التعاطي مع الأزمة الراهنة ونقصد بذلك تحديداً مسألة المصالحة الوطنية وموضوع المهام المستعجلة الواردة في البيان.

ولكن ظروف الأزمة التي تعيشها البلاد بالإضافة إلى تأثيرها السياسي والأمني الخطير أنتجت جملة من الاختناقات الجديدة تتعلق بمتطلبات الحياة اليومية للمواطن التي تزيد الأزمة تعقيداً وتزيد من حالة الإحباط والاستياء الشعبي، فالدولة اليوم عاجزة عن إيصال حاجات أساسية للمواطن في العديد من مناطق البلاد مثل الخبز والوقود والأدوية، لتكشف بذلك عن مشكلة بنيوية تتعلق بالنظر إلى دور الدولة في الحياة العامة ذلك الدور الذي همشته وهشمته السياسات الليبرالية خلال العقد الأخير، فالأزمة تؤكد مرة أخرى أن تلك السياسات في ظرف كالظرف السوري لاتنتج إلا دولة هشة وعاجزة عن لعب الدور المنوط بها، بينما الذاكرة التاريخية للشعب السوري تقول إن في ظل وجود دور رعائي للدولة وفي ظل ظروف مثل ظروف حرب تشرين 1973مثلاً كانت نموذجاً للدولة القادرة فلم تشهد البلاد في حينه أية اختناقات وأزمات كالتي نشهدها الآن،  ومن هنا بالضبط يتبين أهمية الانعطاف الذي دعونا إليه وناضلنا من أجله خلال السنوات الماضية، أي ضرورة الإقلاع عن السياسات الليبرالية، فسورية التي فرضت عليها الجغرافيا السياسية والتقاليد الوطنية لشعبها أن تكون دولة مواجهة بحاجة إلى نموذج الاقتصاد المقاوم الذي يلبي مصالح الفقراء والكادحين وليس نموذج ليبرالي يستفيد منه الناهبون والفاسدون.

وعلى كل حال فالوقائع وتوازن القوى على الأرض تشير إلى  أن التوتر سيستمر، وهذا ما يتطلب التكييف مع الوضع الحالي بمعنى ضرورة توفير الأدوات الضرورية لكي تقوم الدولة بدورها المطلوب منها، ومنها ضرورة التخلي نهائيا  وقبل كل شيء عن المنطق الذي تمت به إدارة الأزمة، فالمعالجة الأمنية الصرفة دفعت الأمور دفعاً إلى أوضاع أكثر تأزماً وخطورةً مما يتطلب إعادة النظر فيها، كما أن عقلية « خلصت » و« انتصرنا» قادت إلى تأجيل كل شيء إلى ما بعد الحسم الأمني وأدت بالتالي إلى  عدم اتخاذ اجراءات جدية على الأرض للتحضير الجدي والفعلي للحالة المأزقية التي وصلت إليها البلاد.

إن من صنع الأزمة وكان طرفاً فيها خلال كل مراحل تطورها لا يمكن أن  يساهم بحلها حلاً حقيقياً، وهذا ما يتطلب فتح النار - بالمعنى السياسي و الإجرائي - مباشرة على قوى الفساد الكبير، لأنه من خلال معركة كهذه يمكن تأمين الموارد الضرورية المتناقصة باستمرار، وإذا كانت هذه تبدو أنها مهمة اقتصادية فقط فهي في العمق مهمة وطنية وديمقراطية أيضاً فالفاسدون كما قلنا مراراً أوطانهم في جيوبهم.

وينبغي أن يكون للحركة الشعبية العريضة كلمتها في الخروج من الأزمة، فهي التي تكتوي بنار الأزمة، وهي التي تدفع الثمن دماً ونزوحاً وتهجيراً من أماكن سكنها، وهي التي تدمر ممتلكاتها، وفي الوقت نفسه هي الرقم الأهم في المعادلة السورية الراهنة الذي يتم تجاهله من  القوى المختلفة، و في الحقيقة هي وحدها القادرة على حسم الموقف بما يعبر عن مصالحها والمصالح الوطنية العليا، وهي التي تستطيع لجم كل المخاطر المحدقة بالبلاد، ومن هنا تأتي أهمية دورها الرقابي على الأرض، وتقبل مبادراتها، وسماع رأيها، والكف عن التشكيك بها أو النظر إليها من خلال سلوك القوى الدخيلة عليها، ومن خلال محاولات قوى دولية و إقليمية استغلالها عبر توظيف حالة الاحتقان والقلق لديها.

إن المطلوب من الحكومة أن تترجم القضايا المستعجلة الواردة في بيانها على الأرض، وتوفير الأدوات الحقيقية والأجواء المناسبة لذلك، ليس من جهة مصالح المواطن المباشرة فقط، بل من جهة المصالح الوطنية أيضا لأن الالتزام بتنفيذ تلك المهام  من شأنه أن يكون أحد طرق السير باتجاه المخرج الآمن من الأزمة و إنقاذ البلاد وصولا إلى سورية الجديدة دون دفع المزيد من الأثمان.