افتتاحية قاسيون: ألغام «الديمقراطية التوافقية»..!
تدل كل المعطيات والمؤشرات المتعلقة بالأزمة السورية، وحركة الدبلوماسية الدولية، وتصريحات النخب السورية المعارضة، على أن حلاً ما يجري ترتيبه فيما يخص الوضع السوري، وهذا ما كان متوقعاً بعد أن وصلت كل الأدوات الأخرى إلى طريق مسدود، نتيجة التوازنات الدولية والاقليمية والداخلية.
وما ينبغي الانتباه إليه هنا، إن هذا التوافق الدولي لايعني أن تلك القوى الدولية وخصوصاً الولايات المتحدة، التي كانت تصر على حسم الوضع في سورية بما يتوافق مع مشاريعها ومخططاتها، قد تخلت عن أهدافها، فهي هنا تغير الأدوات وليس الأهداف، تغير التكتيك وليست الاستراتيجية، مكرهة على ذلك بحكم توازن القوى على الأرض.
إن الهدف الثابت لهذه القوى الدولية، هو الهيمنة والنهب، والتحكم بتطور الأوضاع في العالم لحل أزمتها المستعصية أو تأجيل تراجعها الحتمي على المستوى العالمي، وتستخدم لتحقيق ذلك جملة من الوسائل المتنوعة والمتعددة حسب الظرف الملموس، وتقول تجربة البلدان التي تدخلت فيها منذ إعلان ما يسمى الحرب على الإرهاب على أن النموذج المعتمد لديها هو فرض نموذج ما يسمى بديمقراطية المكونات، أي بناء نظام قائم على المحاصصة على أساس مكونات ما قبل الدولة الوطنية، ديمقراطية الطوائف والقوميات والمذاهب، كخطوة لابد منها لتحقيق الهدف الاستراتيجي بإعادة صياغة الخريطة السياسية للعالم، القائمة على أساس كانتونات متحاربة، يعبر عنها بنموذج الدولة الهشّة، ونعتقد أن الفهم الأمريكي للحل السياسي في سورية لا يتعدى هذا الفهم باعتماد أسلوب «القوة الذكية»، فتّحقق بذلك ما عجزت عن تحقيقه من خلال محاولة التدخل المباشر أو التدخل غير المباشر بدفع كل قوى التطرف والتكفير من مشارق الأرض إلى مغاربها إلى سورية، كخطوة لابد منها للتأسيس لهذا النموذج (الديمقراطي) الذي يعني من جملة ما يعني زرع ألغام قابلة للتفجير حسب مصالح النخب الطائفية، أو العرقية أو الدينية، وحسب مصالح هذه القوى الدولية الراعية لمثل هذا النموذج، لتبقى جميع الأطراف ضعيفة تستجدي القوى الدولية المهيمنة.
إن ديمقراطية من هذا النوع عدا عن أنها تتوافق مع المشاريع الدولية المعادية، تعتبر أداة لقوننة النهب والتشبيح، فمثل هذا النموذج هو الشكل الأمثل للتعبير عن مصالح قوى الفساد في النظام، ومصالح تلك النخب المعارضة التي تعيش على موائد اللئام والشبيحة الدوليين، ويحاولون إدخال الفقراء والكادحين في أتون معارك مستدامة تنهك البلاد والعباد وتجهز عليهما.
لاشك أن النظام السياسي القديم في البلاد - نظام الحزب الواحد - قد استنفد دوره التاريخي، ولاشك أيضاً أن بناء نظام سياسي جديد هو حق مشروع للشعب السوري، بعد أن أنهك الفساد كل عناصر نموذج الدولة الوطنية، وبعد أن استُلِبت إرادة المجتمع بأدوات القمع، وعليه فإن رغبة الشعب السوري ببناء نظام ديمقراطي هو تعبير عن مصالحه الوطنية العامة والمباشرة، ولكن أي نموذج ديمقراطي..؟
إن الديمقراطية المنشودة والمعبرة عن المصالح الحقيقية للشعب السوري هي ديمقراطية المكونات السياسية المدنية، ديمقراطية البرامج السياسية، والصراع الحضاري بينها على أساس التعبير عن مطالب الشعب وتأمين حاجاته المادية والروحية، واعتماد مبدأ المواطنة بعيداً عن كل أشكال التمييز على أساس الدين أو القومية، ديمقراطية تكون أداة بيد أغلبية الشعب السوري الكادحة ليردع قوى النهب والفساد عن تقاسم الثروة والسلطة، ديمقراطية تحافظ على الدور التاريخي لسورية وغناها الحضاري، وتعبر عن وطنية الشعب السوري في رفض كل أشكال التدخل الخارجي والهيمنة والمشاريع الاستعمارية القديمة والجديدة.
إن الثقافة السائدة بين الشعب السوري هي ثقافة وطنية جامعة، عابرة لمكونات ما قبل الدولة الوطنية، وإن كان الفساد وثقافة المجتمع الاستهلاكي قد فعل فعله في بعض الأوساط، وإن كانت الأزمة الحالية وسلوك المتطرفين من هنا وهناك قد أسس لشيء محدد هنا وهناك، وإذا كان إعلام البترودولار قد حاول تعميم ثقافة المكونات، إلا أن الشعب السوري وقواه الوطنية الحية، صاحبة التقاليد الوطنية مستفيدة من تراجع قوى الرأسمال العالمي، وتقدم قطب الشعوب يراهن إيجابياً على قدرتهم على لجم كل المشاريع الهجينة والغريبة عنه، فكما فشلت محاولة التدخل العسكري المباشر، يفشل التدخل غير المباشر، وستفشل محاولة فرض نموذج ما يسمى ديمقراطية المكونات التي لاتقل خطراً من حيث النتائج عما سبقها من مشاريع.