المهجرون والحل الأمني..
تنشأ على هامش الأحداث السياسية الرئيسية في الأزمة السورية أزمات لا تظهر إعلامياً عند مقارنتها بهول الدماء والعنف المتبادل من الطرفين، كمشكلة التهجير والمستوى المعاشي المتدني والتهريب والجريمة والفوضى، ولكن إذا ما تراكبت تلك الأزمات أي تفجرت مجتمعة في زمن قصير، وهي مرشحة لذلك قريباً، أصبحت خطراً جسيماً على واقع البلاد ووحدتها بحيث يصبح الحل معقداً ومكلفاً وربما غير ممكن، لذا أصبح من الضروري معالجة تلك الملفات، أو معالجة المنهجية المنتجة لهذه الأزمات، التي تخلق أخطاراً إضافية غير ظاهرة أحياناً، وقد علمنا التاريخ أن الخطر غير الظاهر هو الخطر الأهم والأعظم..
الحديث عن الحل السياسي الشامل الذي يكون الحل الأمني فيه جزءاً من منظومة متكاملة سياسية واقتصادية- اجتماعية ووطنية، كان يبدو ضرباً من الهرطقة والطوباوية لدى قوى النظام الممسكة بزمام القرار، بل أكثر من ذلك، تمسكت تلك القوى بذاكرتها الحية والتي أثبتت الحياة أنها ذاكرة محدودة وقصيرة بالمعنى التاريخي، عمرها لا يتجاوز الأربعين عاماً، وتفتقر إلى الجانب النظري والتحليلي المبدع للحلول الجديدة، والمقصود هو استخدام العنف ضد الحركة الشعبية مثلما تم استخدامه ضد القوى الظلامية الإسلامية في الثمانينيات من القرن المنصرم وعدم المقدرة على التمييز بينهما، وإذا كان من الغباء اللجوء إلى وسائل مجربة أثبتت فشلها في حل الأزمة، فلا يمكن تفسير خطيئة قمع الحركة الشعبية بالقصور المعرفي وحده، ولكن أيضاً بدخول قوى الفساد الكبير على الخط وجر القوى المختلفة نحو النزاع المسلح تحت سقف إحدى الخيمتين، خيمة المعارضة وخيمة الموالاة، وهذا كان من الممكن الحؤول دونه فيما لو كانت فاتحة حل الأزمة هي الإطاحة برموز الفساد الكبير منذ البداية، والذي يمكن اعتباره فاتحة للحلول الإبداعية غير المسبوقة والصادمة، لو تم تنفيذه.
جرى تهجير أعداد كبيرة من السكان في المناطق الساخنة والتي استخدم فيها العنف المنظم والمفرط إلى محافظات أخرى، بحجة أو بأخرى، مما أدى إلى تفاقم المشاكل الناجمة عن الأزمة وتعقيدها أكثر وخلق مشاكل جديدة سواء في محافظات المهجرين أو المحافظات المضيفة وهو ما جعل ملف التهجير من أهم وأخطر الملفات العاجلة التي تستلزم المعالجة الفورية، لما يحمله من نتائج سياسية وديمغرافية كارثية على البلاد ستطال نتائجه مختلف المستويات وستؤثر سلباً في خارطة سورية الجديدة، فتأثيراتها العميقة لا تقتصر على المناطق التي هُجّر منها السكان والتي اتسعت لتتناول محافظات بأكملها، بل تمتد لتشمل جميع القطاعات في البلاد، إذ تسبب العنف والعنف المضاد بتوقف قطاعات إنتاجية بأكملها في محافظات كاملة وتقطيع أوصال البلاد وشرايين الاقتصاد السوري كله، وخلق مشاكل وأزمات فيه لا يمكن حلها بسهولة (نقص المواد الغذائية، نقص في المستلزمات الأساسية مثل الغاز والمازوت، شلل القطاعات التعليمية وتوقفها كلياً في بعض المناطق، تكريس وتوسيع البطالة، انتشار الجريمة وفقدان الأمان الاجتماعي) وأثر في مختلف نواحي الحياة ومفاصلها الأساسية، عدا عن تبعاتها الاجتماعية المباشرة من مثل زج مئات العائلات وتجميعها في تجمعات تفتقر إلى أبسط مقومات العيش الكريم، مثل المدارس في الحسكة، وتعرض هذه العائلات إلى مشاعر الإهانة جراء ذلك، وما سيتبعه من مشاكل نفسية واجتماعية ستؤدي إلى تفكك البنية الاجتماعية والأسرية وستتعمق تأثيراتها السيئة..
طرحت بعض القوى الوطنية في سورية مسألة تجفيف البيئة الحاضنة للسلاح والمسلحين في سورية منذ بداية الأزمة، وكان ذلك ممكناً في حينها لأن المجتمع السوري إلا جانب ما يملكه في إرثه التاريخي من تقاليد الثأر فإنه يمتلك أيضاً تقاليد حل النزاعات الأهلية بعيداً عن العنف، إلا في حالات قليلة ونادرة وبظروف خاصة جداً، وهو ما يؤسس لحل سياسي والتفاف شعبي حوله، ولكن لجوء النظام للحل الأمني البحت، وذهابه إلى تهجير السكان وإبعادهم عن مناطقهم، بدلاً من حل المشاكل العالقة، أوصل حلوله إلى طريق مسدود وأدى إلى تعقيد الأزمة واستنفاد الفرص الواحدة تلو الأخرى، وإذا كان البعض يرى في تهجير سكان المناطق المتوترة حلاً إبداعياً للتعامل مع البيئة الحاضنة، فإن هذا الحل قد ينفع مؤقتاً وعلى المدى القصير بتشتيت هذه البيئة، ولكنه في المقابل سيجهز البلد نحو مخططات التفتيت والإجهاز على وحدته الوطنية نهائياً على المدى المتوسط.. لذا ينبغي التعامل مع مسألة المهجرين على أنها قضية أمن وطني من الدرجة الأولى ينبغي حلها ضمن آجال قصيرة لا تتعدى الأشهر، وذلك في سياق المصالحة والحل السياسي، وإلا فإن الأوضاع لا تبشر بالخير أبداً