الافتتاحية: ملاقاة الجماهير بملاقاة مطالبها
تشير وقائع وتطورات الأوضاع في جملة من البلدان العربية إلى انطلاق واتساع موجة مد شعبية تعبر عنها الانتفاضات والثورات الجماهيرية. فبعد تونس ومصر، انتقلت التحركات الشعبية الواسعة النطاق إلى اليمن والبحرين وليبيا والعراق، وهناك مؤشرات لإمكانية اتساع هذه التحركات لتصل إلى بلدان أخرى، عربية وغير عربية.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يشهد فيها العالم موجةً شعبيةً ثوريةً واسعة النطاق، فقد انطلقت مثل هذه الموجة في أواسط القرن الماضي، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث خرجت الدول الإمبريالية مثخنةً بجراح تلك الحرب، ما أدى إلى نشوء حالة فراغ أطلقت موجة المد الثوري التي أطاحت بالنظام الاستعماري الكولونيالي العالمي، وأدت لاستقلال عشرات الدول والشعوب، وخروجها من تحت السيطرة الاستعمارية وسيرها في طريق التحرير الوطني ومحاولة إنجاز مهام ثوراتها الوطنية الديمقراطية.
وردت الدول الإمبريالية وعلى رأسها الإمبريالية الأمريكية، (الزعيم) الجديد للإمبريالية في تلك المرحلة، على ذلك بمختلف الأشكال (إنشاء نظام الاستعمار الجديد واستكماله، واستخدام الانقلابات العسكرية والتدخلات المباشرة وغير المباشرة)، مستفيدةً من تراجع «قوى العملية الثورية»: البلدان الاشتراكية، والحركة العمالية العالمية، وحركة التحرر الوطني، ما أمّن لها وضعاً عالمياً مسيطراً باطراد، كان قمته انهيار الاتحاد السوفييتي، لينطلق المشروع الليبرالي الجديد متسارعاً مغطياً العالم بأجمعه، ولكن بالوقت نفسه ليصل إلى محطته الأخيرة، محطة الأزمة التي انطلقت وأطلقت معها الموجة الثورية التي يعيشها العالم اليوم، والتي يمكن التنبؤ بأنها ستكون أوسع وأعمق من جميع الموجات الشعبية الثورية السابقة، بحكم أنها نتاج أزمة أوسع وأعمق من كل الأزمات التي شهدها التاريخ العالمي.
إن التحركات الشعبية الرافضة لطريقة العيش السابقة التي تكونت وترسخت أثناء سيادة نظام الاستعمار الجديد، بما أفرزته من أنظمة اجتماعية اقتصادية- سياسية، هي تعبير عن موجة موضوعية لا يمكن منع انطلاقها، وهو ما تدركه الإمبريالية وخاصةً الأمريكية، لذلك فهي تحاول تأريض هذه الموجة أو التحكم بمسارها بطريقتين: الأولى، بحصر نتائجها بالتغييرات السياسية الشكلية ومنعها من أن تتعمق وتصل لإحداث تغييرات اقتصادية اجتماعية- سياسية عميقة، أملاً بالحفاظ على الوضع السابق مع بعض التجميل؛ والثانية، بدفع الأحداث نحو فوضى شاملة ليصبح تدخلها المباشر ممكناً، لا بل مطلوباً، وذلك عبر الاستفادة من إغراق الانتفاضة بالدماء، ما يسمح لها لاحقاً بإعادة إنتاج أنظمة جديدة تابعة لها.
إن الشعارات التي رفعتها الجماهير المنتفضة والثائرة (تونس ومصر) هي شعارات إسقاط الأنظمة التي تكرّس وتحمي بالقوة والقمع نمط توزيع الثروة، نمط النهب والفساد للطبقات المتحالفة مع الإمبرياليين والصهاينة، وهي بحسها ووعيها خرجت وما تزال، لتطالب بتغيير الأنظمة وليس رموزها، وبناء أنظمة تكرّس توزيعاً عادلاً للثروة لمصلحة الجماهير.
إن ملاقاة القوى الوطنية والتقدمية والمقاومة للجماهير التي تصدرت واجهة الأحداث المتسعة، يعني ملاقاة مطالبها الوطنية والاقتصادية- الاجتماعية والديمقراطية، ملاقاة مطالبها الجذرية، ومنع عملية التأريض أو التحكم من جانب الإمبرياليين وحلفائهم، ومنع محاولات ركوب الموجة.
إن للعدالة الاجتماعية أفقاً واحداً اليوم، هو الاشتراكية التي باتت على أيدي الحركة الجماهيرية تطرق الباب بقوة.
في سورية، تمثل مراجعة السياسات الاقتصادية الاجتماعية المنفذة مدخلاً أساسياً ووحيداً لملاقاة طموحات ومطالب الجماهير الشعبية عميقة الوطنية. هذه المراجعة التي ينبغي أن تفضي إلى ترحيل السياسات الحكومية الليبرالية ورموزها، بالاستناد لأوسع حريات سياسية للجماهير الشعبية صاحبة المصلحة في الانعطاف المطلوب.