افتتاحية قاسيون 525: الحوار.. استحقاق وطني ملحّ
ضاع الكثير من الوقت منذ تفجر حركة الاحتجاجات الشعبية في آذار الماضي وما تلاه من دخول البلاد في أزمة وطنية عميقة، وسالت دماء سورية زكية طوال الشهور السبعة المنصرمة كان يمكن بمستوى أعمق من الحلم والوعي وعدم المكابرة أو الاستكبار ألا تسيل، وزجّ الكثير من الدخلاء والمشبوهين بأنفسهم ومخططاتهم في الفراغ الذي أحدثه الشقاق الهائل الذي نشأ بين النظام وشرائح واسعة من الشعب على خلفية القمع والشعارات القصوى والعنف، والعنف المضاد، وعملوا على توسيع الهوة بينهما بمساعدة المتشددين في كل طرف، محاولين إيصالها إلى درجة القطيعة النهائية، ولم ينصت الكثيرون وسط كل هذا الضجيج لأصوات العقلاء، الذين حاولوا منذ البداية تفسير طبيعة الأزمة وتقديم اقتراحات عملية لتجاوزها والسير بالبلاد باتجاه المخرج الآمن الوحيد وهو الحوار الجدي، الذي سيفضي إلى تغيير النظام جذرياً بشكل يحافظ على وحدة البلاد واستقرارها..
وهكذا بقي الحوار المقصود، المنوط به إنقاذ البلاد وسيادتها وشعبها ووحدتها الوطنية، دون تفعيل حقيقي، وعدا اللقاء التشاوري في 10- 12 تموز الذي تم تجاهل توصياته وتصويب النيران عليها من أطراف كثيرة، لم تكن هناك أية خطوات جدية في هذا الاتجاه، الأمر الذي أفضى إلى تعالي وتزايد الأصوات الناشزة والشعارات الناشزة والسلوكيات الناشزة على الأرض، وازدياد مخاطر التدخل الخارجي الذي حدث الكثير منه بأشكال مختلفة وفي مناطق متعددة، وهو ما أدى إلى تعمق الأزمة أكثر فأكثر، ونزيف المزيد من الدم السوري.
واليوم، وبعد وصول الأزمة إلى مستوى خطير اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وبعد أن أصبحت البلاد مهددة بمستوى أعلى من التدخل الخارجي الذي ظل شبحاً جاثماً طوال الفترة الماضية، وبعد أن أُنهك النظام، وأنهكت الحركة الشعبية، وكثرت الوساطات المختلفة المرامي والأهداف، عاد الحديث عن الحوار ليأخذ طابعاً أكثر جدية، ولكن ليواري خلفه الكثير الكثير من الأهداف المتباينة، المعلنة وغير المعلنة..
فـ«المعارضة» الخارجية، المدعومة من جميع القوى الإمبريالية ومن العديد من الدول العربية وخاصة النفطية، لا تفهم من الحوار ولا تريد منه أقل من تسليم مقاليد السلطة لها دون قيد أو شرط، رغم أن مناقشة هذه المسألة منطقياً فقط، يظهر أن قواها الحقيقية على الأرض لا تسمح لها بهذا السقف المرتفع جداً من المطالب، فكيف إذا تمت مناقشة المسألة من ناحية بنيتها و«وطنيتها» ودعمها وتمويلها وخطابها العام وعدم امتلاكها أي برنامج واضح المعالم، اقتصادي ـ اجتماعي، يغاير، أو يتمايز عما هو جار الآن، والذي شكّل أحد صواعق تفجر الأزمة أصلاً؟!.
أما المتشددون في النظام، المرتبطون عضوياً بقوى الفساد، والذين يشكلون طرفاً أساسياً في معادلته، ويعدون أحد أبرز أسباب تراكم الاحتقان الاجتماعي وصولاً لانفجار الأزمة، فإن اضطروا مرغمين لقبول مبدأ الحوار بفعل الواقع الذي يزداد تردياً، وبفعل الضغوط المختلفة، الداخلية والخارجية، فإنهم كانوا ولا يزالون، لا يريدون منه أكثر من تثبيت وتكريس ما هو قائم عبر المراوغة وما يحسبونه كسباً للوقت لعل الظروف تتغير بقدرة قادر، حفاظاً على مكاسبهم غير المشروعة وثرواتهم المكدسة في البنوك الخارجية وإبقاءً على نهبهم للبلاد وتسلطهم على العباد، وبالتالي فإنهم سيبذلون كل ما بوسعهم لإجهاض أي مشروع حوار حقيقي يهدف إلى إنجاز إصلاح جذري شامل..
وبين هذا وذاك، أخذت تبرز في الآونة الأخيرة أصوات أخرى، من التي ظل الضجيج الحاصل، العفوي والمتعمد، يشوّش عليها شهوراً، وبدأت تشق طريقها للآذان والعقول، وهذه الأصوات الموجودة داخل جهاز الدولة وخارجه.. وخاصة في صفوف المعارضة الوطنية والحركة الشعبية، تريد الحوار لأنها تريد نسف كل المحاولات لدفع البلاد إلى كارثة كبرى، ولأنها تريد السير بسورية الواحدة الموحدة المستقلة والمقاومة إلى مخرج آمن يجنبها كل ما يخطَّط لها من أعدائها والمتعاملين معهم، الذين لم يكلوا من محاولة امتطاء الحركة الشعبية وحرفها عن مسارها وتضليل بوصلتها، وصولاً إلى إجهاضها بأبخس الأثمان عبر إغراقها في صراعات وهمية تذهب بها وبالبلاد برمتها!.
إن السير نحو الحوار الوطني الشامل أصبح مطلباً ملحاً واستحقاقاً وطنياً تتفق عليه الأكثرية الساحقة من السوريين، ولا يمكن إنجازه وتمكينه من الوصول إلى غاياته الإنقاذية لسورية الوطن والشعب دون توفير المناخ المناسب له، وإن تحقيق ذلك لن يتم دون الاعتراف بالحركة الشعبية السلمية بوصفها ضمانة الإصلاح المطلوب، ودون إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي، والإفراج عن جميع الموقوفين خلال الأحداث الأخيرة، ووقف العنف وإراقة الدماء وإنهاء كل مظاهر وأشكال التجييش والتهويش، بهدف الانتقال بالبلاد نحو التغيير المنشود