نفحات وطنية : وتكحلت عيناه
هي قصة رجل حقيقي.. قصة ثائر شهم من ثوار سورية الميامين، وبدايتها حدثت في بيت بحارة قبر عاتكة في حي الميدان أحد أحياء دمشق الفيحاء
والزمان صباح أحد أيام عام 1919 حين دخل شكري الطباع إلى دار شيخ الحارة عمر البلهوان – وشيخ الحارة في ذاك الزمان هو كبير وجهائها - مستجيراً به: يا أبا إبراهيم، قد حلت بي مصيبة لا أدري كيف أتخلص منها. فأجابه أبو إبراهيم: ماخطبك يا رجل؟ تكلم فأنا مصغ إليك. قال شكري: لقد أقسمت بالله العظيم ألا أبوح إلى أحد بالسر الذي في صدري، فإن بحت به كنت خائناً، وإن كتمته كنت خائناً أيضاً. قال أبو إبراهيم: هون عليك، فهناك حل للأمر، والحل ألا تكلم أحداً عن سرك، وتستطيع أن تكلم الجدار الذي وراءك بسرك وبذلك تكون قد حافظت على قسمك، وفهمنا معاناتك. وبعد تردد استدار شكري نحو الجدار متوجهاً إليه بالحديث: اجتمعت يوم الخميس الماضي في بيت.... بفلان وفلان وفلان وقام صاحب البيت بإحضار المصحف، واستحلفنا ألا نبوح بسر الحديث الذي سيدور بيننا، وبعد أن أقسمنا قال لنا: أمس جاءني بعض عملاء الفرنسيين، وأعطوني مبلغاً كبيراً من الليرات الذهبية لأوزعه على كل من يتعهد بعدم محاربة الفرنسيين عندما يدخلون إلى دمشق (وكان الفرنسيون يومها في لبنان والساحل السوري) وهم سيعطون مالاً كثيراً إذا دخلوا إلى دمشق من غير قتال.
عندما سمع الشيخ هذا الكلام الخطير غلى الدم في عروقه وصاح بالرجل: اغرب عن وجهي، لا وفقك الله، وأنا سوف أقوم بما يمليه علي الشرف والضمير الحي، وانطلق عمر إلى وجوه أحياء دمشق ورجالها ودعاهم للاجتماع في بيته، وعندما حضروا وقف بينهم قائلاً أيها الرجال هل بيننا خائن، فأجاب الجميع: كلا يا أبا لإبراهيم خسئ الخونة العملاء. فقال عمر: لقد اجتمعنا اليوم لنقسم على المصحف والسيف ألا نخون بلادنا، وألا ندع الأجنبي يدخل أرض وطننا إلا على أجسادنا، وأخبرهم بحقيقة الأمر، وهكذا أقسم الجميع قسم رجل واحد، ثم انطلقوا إلى أحيائهم يستثيرون همم المواطنين لمجابهة الأعداء الطامعين، وعلم الفرنسيون بأن محاولة شراء ذمم الناس قد فشلت. وبعد هذه الواقعة بشهرين قرع أحدهم باب بيت أبو إبراهيم عمرالذي رحب به، ودعاه إلى الدخول وجرى بينهما الحديث التالي، قال الرجل: هل لديك شيء للبيع أشتريه منك بثلاثين ليرة ذهبية، فأجاب أبو إبراهيم: لدي ما لايباع أو يشترى، لدينا ما هو أغلى من الغالي، لا نبيعه بمال الدنيا إنه الوطن. فقال الزائر: والله إنك لرجل شهم وشريف وأنا متأكد من ذلك، وجئت لأخبرك أنك حين جمعت رجالات دمشق وتعاهدتم على التصدي لدخول الفرنسيين قد أعقتم تحرك جيشهم وكلفتموهم نفقات لم تكن ملحوظة من قبل وقدرها نصف مليون فرنك فرنسي فقال عمر: لقد قمنا بواجبنا. ثم كانت معركة ميسلون الملحمة بقيادة البطل يوسف العظمة، ودخلت فرنسا دمشق على أجساد الأبطال المدافعين في 24 تموز عام 1920 وفي التاسع من آب حكم الفرنسيون بالإعدام على عمر البلهوان بعد أن نهبوا بيته ثم أحرقوه، فهرب إلى حيفا وبقي فيها حتى عام1923 حيث رفع حكم الإعدام، وعاد إلى بيته ثم تابع نشاطه ضد المحتل، وحين اشتعلت الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش تحت شعار: الدين لله والوطن للجميع عام 1925 قاتل في صفوفها، وفي عام 1926 حكم عليه ثانية بالإعدام فهرب إلى جبل العرب وتابع مشاركته بالثورة مع البطل سلطان الأطرش، وظل حكم الإعدام سارياً لمدة تسعة أعوام، ثم صدر قرار بالعفو، لكنه بقي على طريق الثورة والمقاومة، وعندما جرى الإضراب الستيني عام 1936 شارك في تنظيمه من خلال عقده الاجتماعات في بيته يوماً، وفي بستان بيت الطباع يوماً آخر وهكذا إلى نهاية الإضراب المشهور. وبعد جلاء المحتل تكحلت عيناه برؤية العلم الوطني مرفرفاً في سماء سورية البطلة، ونعم بالعيش الحر الكريم بين أبنائه وأحفاده إلى أن وافته المنية عام 1969.