في خطر «الوجه الكارثي للأزمة» السورية

في خطر «الوجه الكارثي للأزمة» السورية

الحل السياسي للأزمة السورية. إنها الرؤية التي باتت تتزاحم عليها معظم القوى السياسية، بعضها عن قناعة وبعضها الآخر أجبره فشل تجربته العسكرية على تغيير أداة صراعه فقط، لاعتمادها كسبيل وحيد لتأمين المخرج من هذه الأزمة

وتأتي التحضيرات الجارية لعقد «المؤتمر الدولي حول سورية» لتشكّل إحدى الدلائل على تبلور هذه الرؤية في كافة الصعد، الدولية والاقليمية والداخلية، أكثر من أي وقت مضى. إلا أن الحقيقة التي ينبغي إدراكها هي أن ذهاب أغلبية المتصارعين إلى اعتماد الحل السياسي لا يعدو كونه خطوة في الاتجاه الصحيح، على عكس ما بات يروج له أعداء الحل السياسي حتى الأمس القريب حول أن اعتماد الحل السياسي، هو غاية الخطوات التي يقتضيها حل الصراع في سورية..

الصراع في أقسى أشكاله:

استخدم الماركسي الإيطالي «أنطونيو غرامشي» اصطلاح «الوجه الكارثي للأزمة» للتعبير عن تلك الحالة التي تصبح فيها القوى السياسية الساعية للإبقاء على الشكل القائم للنظام عاجزة تماما عن الاستمرار بالعمل ضمن ضوابط بنيتها، في ذات الوقت الذي تكون فيه القوى الثورية التغييرية غير قادرة كذلك على إنجاز نصرها. ويكمن «الوجه الكارثي للأزمة» في هذه الحالة بإدخال المجتمع في الشكل الأكثر سلباً من أشكال الفوضى المتعددة..

قبل إسقاط ما سبق على الأزمة التي تعيشها سورية اليوم، يجدر بنا توضيح بعض الأفكار حولها، فإذا ما تركناه في غمرة التشويه الذي أصاب بعض المصطلحات السياسية، نتيجة الضخ الإعلامي المسطِّح للوعي، ستبقى الأفكار عرضة للتأويل. فالمقصود بالقوى السياسية الساعية للإبقاء على الشكل القائم للنظام لا يقتصر في الأزمة السورية على تلك القوى الموجودة في النظام فحسب، بل في كل من تتوافق بنيته وطرحه السياسي مع هذا السعي، أياً كان موقعه الحالي من الثنائية الوهمية «موال- معارض»، وكذلك القوى الثورية التغييرية لا تقتصر على إحدى دفتي هذه الثنائية. ولعل الموقف من شكل توزيع الثروة السورية يكفي ليشكّل الحد الحقيقي الفاصل بين الثوري التغييري من جهة، ومن جهة أخرى الساعي للإبقاء شكل توزيعها الحالي.

قد يخلط البعض بين مفهوم «الوجه الكارثي للأزمة» وبين ما سبق وتحدثنا عنه حول التوازن العسكري الداخلي الصفري، وهذا خاطئ بالطبع. فالتوازن العسكري الصفري قائم بين طرفي الثنائية الوهمية، بينما المفهوم الأول يعبّر عن حالة قصور القوتين المتناقضتين طبقياً، خارج إطار الثنائيات الوهمية، عن تحقيق النصر. وهذا ما لم يتم حسمه حتى اليوم، فالقوى التي لها مصلحة في تغيير بنية النظام السوري، تغييراً جذرياً وشاملاً، ليست في تلك الحالة المأساوية التي تسمح لنا بالقول أن البلاد قد دخلت طور «الوجه الكارثي» لأزمتها، ولكنها على الأقل قد تعاني من خطر الوصول لهذا الطور ما لم تسعى هذه القوى إلى حل بعض مشكلاتها الحالية المرشحة لأن تلعب دورا فاعلا في إنزلاق البلاد إلى ما لا تحمد عقباه..

معوقات مرحلية.. كوارث مستقبلية:

تتعدد العوائق الحائلة دون لعب القوى الثورية، ممن لها مصلحة في تغيير النظام، دوراً فاعلاً في الصراع يؤهلها لتجنّب البلاد خطر الوقوع في براثن عجزها (أي القوى الثورية) عن إنجاز التغيير الجذري والشامل في المجتمع السوري. لكننا سنكتفي بثلاثة عوائق رئيسية واضحة في الصراع الحالي، وهي:

أ - تحديد هوية البرنامج السياسي:

لعل البرنامج السياسي غير المعلن، أو غير واضح المعالم، للكثير من القوى السياسية الموجودة على الساحة السورية، لعب دوراً أساسياً في إطالة أمد الأزمة، وحال دون تحديد الهوية الاقتصادية- الاجتماعية والوطنية لهذه القوى، وهذا ما يشكّل عاملاً أساسياً من عوامل تشرذم القوى التغييرية، ومساهمتها في كثير من الأحيان بخدمة خصمها الطبقي المستفيد من تشرذمها هذا..

ب - تفكيك الثنائيات الوهمية:

كذلك لعبت «التناقضات» الوهمية، سواء تلك القائمة على أساس سياسي أم تلك الطائفية والعشائرية والقومية القائمة على أساس مقومات ما قبل الدولة الوطنية، دوراً رئيسياً في تأجيج الصراع، ولطالما سعت قوى التسلط والتشدد في الطرفين إلى إثارتها لتورية الصراع الحقيقي القائم على أساس التناقض الرئيسي ما بين ناهب ومنهوب. وكذلك ستلعب هذه الثنائيات دورا فاعلاً في عرقلة دور القوى الراغبة بالتغيير ما لم تكن هي ذاتها متخلصة منها، وتعمل على تفكيكها في المجتمع لصالح الصراع الحقيقي..

ج -  توحيد الجهود في سبيل التغيير:

برزت على طول فترة الأزمة، تناقضات ما بين القوى المتشابهة في الطرفين، ويرتبط ذلك بالطابع الشمولي للثنائيات الوهمية التي أخذت مجراها في خطاب غالبية القوى السياسية السورية. وهذا ما يجدر بالقوى التغييرية الثورية التي تأخرت عن إدراك هذه الحقيقة حتى الآن أن تتجنبه، فالتغيير عملية تراكمية بحاجة إلى تضافر الجهود بين هذه القوى عبر وضع الخلافات الثانوية التي كرستها الأزمة جانباً، والمضي قدماً في عملية التغيير المنشودة..

أخيراً، إن العمل على حل النقاط الثلاث السابقة من شأنه أن يعزز موقع ممثلي الأكثرية الراغبة بجر عربة البلاد نحو الأمام. أما الذهاب نحو المزيد من تعقيدها وعرقلة حلها، فلن يثمر سوى وقوف الأكثرية هذه عاجزة عن مقاومة «الحلول» التفتيتية التي تسعى قوى النهب الكبير في الطرفين تكريسها آخذة ثقلها الأكبر في ذلك من حالة التشرذم التي أصابت القوى الثورية نفسها بها، مهيئة البلاد بذلك للدخول في أكثر المستنقعات وحلاً وقذارة.