معيار الوطنية ..
الوطنية مفهوم يستخدم للدلالة على النقطة المحرقيّة والدائرة التي تتقاطع في صلبها كل مهام الدولة والمجتمع لتأمين مصالح الوطن وتجد الوطنية مضمونها في البرامج والممارسات والتوجهات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وفي إعداد كل المكونات الوطنية كي تنجز المهمة الوطنية الأساس.
الوطنية التي لها تاريخ عريق بسورية، اجتازت مراحل متعددة ومتنوعة وكانت فيها كمحطات تبرز في واجهتها مهمة أساسية ترتبط بها سائر المهام، كان تحقيق الاستقلال وتحرير سورية من الجيوش الفرنسية المهمة الوطنية، وكانت الآراء والسياسات والشعارات والبرامج والممارسات العملية تحدد التخوم الفاصلة بين القوى الوطنية والقوى التي تجنح بحكم مصالحها بعيداً عن المهمة الوطنية وكان عدد من الإقطاعيين الذي تعاونوا مع الإدارات الاستعمارية يضعون النضال الوطني في مستوى محدد وكانوا ينشدون استقلالاً غير ناجز، تشوبه أشكال من التبعية في مرحلة ليست بعيدة أصبحت الوطنية في جوهرها جملة التدابير المتخذة والمرسومة والبرامج. لتحرير الجولان الذي أخذ شعاراً معروفاً هو «إزالة آثار العدوان الإسرائيلي».
ومنذ سنوات تغير ذلك وساد شعار الممانعة وسورية لن تركع. ورغم أن شعار الممانعة ليس متقدماً على شعار إزالة أثار العدوان إلا إنه لعب دوره الوطني. واخذ ذلك شكلاً ملموساً تجلى برفض المقترحات والآراء الإسرائيلية والأمريكية المتعلقة بالسلام في الشرق الأوسط. أشرنا إلى ذلك إذ أن مفهوم الوطنية يرتبط قبل كل شيء بإعداد الوطن لتحقيق الانجاز الوطني الأول.
إنَّ الوطنية معنية بقوة الوطن ومنعته كما أنها معنية بنقاء الهواء والماء وتأمين الغذاء والدواء والكتاب والكساء والحريات الديمقراطية وحقوق الشعب السياسية التي في خلفيتها ممارسة العمليات الانتخابية النزيهة والشفافة والتي تنتهي إلى أن إرادة الشعب تجدد المسؤولين عن شؤونه التشريعية والقضائية.
إن كل ذلك يشير بوضوح أن الشعار الوطني الذي يشكل جوهر الوطنية يتغير من مرحلة إلى أخرى حسب الواقع الموضوعي المتكون والذي يعيشه الوطن سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإيديولوجيا.
لقد فشلت السياسات التي بنيت على أساس الاستعاضة عن الشعب بالحزب الحاكم أو القائد، والوطنية أصبحت فارزة ومحددة للتخوم بين القوى السياسية التي تعبر عن ذلك برامجها وممارساتها والآن والأزمة تقصف والقتال دائر فإن استمراره هو الطريق المؤدي إلى التفسخ الوطني اجتماعياً وأخر دليل على ذلك كانت مجزرة الحولة وغيرها وأصبح العنوان الأول للوطنية في اللحظات الراهنة يتلخص في إيقاف العنف.
إن الوطنية التي تكسب الإنسان خاصية التضحية إنما تشير بوضوح أن كل المسائل تتعقد وتزداد المخاطر مع استمرار العنف وحتى محاربة الإرهاب تجد محركها الأول في ظروف سورية في إيقاف العنف.
إن عدم إيقاف العنف وتصعيده، في الظروف الملموسة ، يذهب أبعد من مخاطر الإرهاب حيث لن تجد بحكم اشتداد الانقسام الاجتماعي الطائفي، إلا تصفية الوطن السوري، وعندها تذرو الرياح الممانعة وتحرير الجولان وإفشال المخططات الإمبريالية والصهيونية، إن تحقيق النصر له الآن معنى واحد هو إنهاء العنف لإنقاذ الوطن.
إن إيقاف العنف يعتبر المعيار الأول والأساس لمفهوم الوطنية في ظروف سوريا.والحياة تؤكد أن «الإرهاب» كما تقدمه أحزاب ووسائل إعلام يقوى مع استمرار العنف وتزايده، ناهيك عن أن الوضع يدل على اختلاط الحابل بالنابل حيث يطرح في صلب الوطنية تساؤل محدد وهو عن أي «إرهاب» يجري الحديث وآلاف القتلى لم يتعاطوا مع أي سلاح وما هي حدود الإرهاب والوقائع تشير إلى عشرات الآلاف الذين اعتقلوا ولا ذنب لهم، أليست الوطنية الآن هي أيضاً دفع المسالمين لأن يتعلموا استخدام السلاح والمتفجرات مادامت الوقائع تضعهم أمام الموت برصاصة أو قذيفة مدفع، ثم أية علاقة بين التظاهرات السلمية والإرهاب، وهكذا فالواقع يتطلب تحديد الإرهاب وليست مصالح الوطن مضمونه إذا ما عمم مصطلح الإرهاب على كل نشاط معارض. إن الوطنية اليوم تعني في أحد مكوناتها أن يدرس المرء الواقع كما هو فالمشكلة التي كانت تتلخص بالأمن والاستقرار كعنوان لما يحدث في المدن والأرياف، تحولت إلى موضوعة أخرى وهي الإرهاب، إن الإدراك الحقيقي يدفع بوضوح إلى التمييز الواضح بين الإرهاب من جهة وضرورة تطويفه كخطوة أولى وذلك بإيقاف العنف وتأمين المطالب السياسية والحقوق وبالحريات الديمقراطية من جهة أخرى وأن الإصلاح الذي يجري الحديث عنه لم يؤمن تلك المطالب ولا تدخل الإجراءات التي تمت تحت عنوان أي إصلاح أو تجديد.
أي حزب ببرامجه وسياساته وأنشطته يحدد موقعه من القضية الوطنية، ومادام المقياس هو الحفاظ على كل ذرة من تراب الوطن، من أي وطن يجري الحديث إذا استمر العنف، ناهيك أنه من الناحية الموضوعية وبعيداً عن البهرجة الإعلامية فإن التمسك بقضية عدم التدخل العسكري تجد أحد مقوماتها الأساسية بإيقاف العنف الذي يتصاعد ويفتح مختلف الأبواب والوطنية تتطلب سد المنافذ أمام ماتريده الصهيونية والقوى الاستعمارية في هذه المرحلة. إن الجهد الوطني المتوخى تأمين عدم التدخل الخارجي هو ذاته يتضمن إيقاف العنف إن الأزمة هي أزمة اجتماعية سياسية تكونت ولها خصوصيات محددة وأصبحت الوطنية مناقضة للاستمرار في حكم الحزب الواحد أو القائد ويستمر ذلك دون أية حقوق قانونية بمعارضة تسعى علناً إلى تغيير حكم الحزب الواحد أو الحزب القائد إن تاريخ القوى الوطنية في الدول العربية يشير بوضوح أن أخطاء الوطنيين لم تعط إلا وأدت تلك الأخطاء التي منها أعداد مؤسسات الدولة للدفاع عن الوطن أدت، إلى هزيمة عسكرية وسياسية في حزيران عام 1967. ولم ترتق الوطنية إلى المستويات الاجتماعية والسياسية بفعل عوامل كان ومازال أخطرها الفساد لذي بات واضحاً أنه قوة تخريب الوطن اجتماعياً وسياسياً، وشكل اعتبار الوطنية باعتباره فقط اصطفاف خلف الرئيس كوارث وطنية في اندونيسيا ويوغوسلافيا ومصر وأدى في النهاية إلى طمس حقوق الشعب وإنكارها فعلياً.
إن المبادرة الوطنية لها وجه واحد، وهو إيقاف العنف والنظام عليه السعي الجدي لتأمين هذه المبادرة ومتطلباتها.