أما آن لهذا الفرعون الذي تفرعن كثيراً أن يرحل؟
ها هي جماهير الشعب المصري الثائرة لكرامتها تزلزل الأرض تحت أنقاض فرعون النظام المصري، المتهالك شعبياً بصورة أساسية، وعربياً وإقليمياً كدور وثقل بالمحصلة النهائية..
لقد عمل حسني مبارك على تنفيذ كل ما طلب منه أمريكياً وإسرائيلياً طوال فترة حكمه التي امتدت إلى أكثر من 30 عاما, وتلقّى بالمقابل موافقة ضمنية على انفراده بالحكم بشكل دكتاتوري مهين، فعاث هو وبطانته فساداً، ونهبوا مصر التي تعد أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان والتأثير التاريخي..
المثال التالي يعطي نبذة بسيطة عن هذا النهب الذي وصل إلى ذروته قبيل تصاعد الاحتجاجات التي أدت سريعاً إلى الثورة الحالية، فقد كان الناتج المحلي الإجمالي لمصر عام 1980، وهو العام الذي استلم فيه مبارك دفة الحكم، يعادل الناتج المحلي لكوريا الجنوبية الذي بلغ 950 مليار دولار عام 2007، في حين أن الناتج المصري لم يتعد الـ120 مليار دولار للعام نفسه, وبالتأكيد فإن هذا الفارق الهائل للتطور الحاصل بين النظامين يوضح كم هو مستوى النهب الحاصل في مصر، ومن مقدرات أبنائها، وكم هو مستوى التبعية الحاصلة للحلف الصهيو - أمريكي في المنطقة, فمصر مبارك جددت التزاماتها طوال تلك الحقبة تجاه إسرائيل بمدها بحاجتها من الغاز المصري ولمدة 25 عاماً، بثمن أقل من نصف ثمنه عالمياً، واللافت للنظر هنا أنه يبيعه لشعبه بأعلى من سعره العالمي, كما راح يسعى بشكل محموم لحل القضية الفلسطينية لصالح العدو الإسرائيلي وعلى حساب الشعب الفلسطيني المنتهكة حقوقه, وفي العقدين الأخيرين راح يتهم حزب الله بالإرهاب والتبعية لإيران، وبذل كل ما بوسعه وسعى سعي المنافقين بين الصفا والمروى لإقناع الشعب المصري بوضع إيران كعدو للعرب بدلا من العدو الإسرائيلي, كما لم ينفك سنوياً من الحج مرة واحدة على الأقل إلى واشنطن لإبداء الطاعة والحصول على التغطية اللازمة لاستمرار حكمه الدكتاتوري التجويعي.. وفي السنوات الأخيرة أخذ يستلهم بعض الطرق التقليدية التراثية لترتيب نظام حكمه بحيث يصبح هو (رئيس تشخيص مصلحة النظام) فيقيم بالعاصمة المستحدثة من قبله في شرم الشيخ، ويورث ابنه جمال سدة الحكم بدلاً منه في القاهرة..
لذلك ليس مستغربا هذا البركان الذي فجره الشعب المصري في هذه المرحلة الحساسة، فقد صبر هذا الشعب على موبقات نظامه لأكثر من 30 عاماً قضاها في الجوع والعوز والبطالة والألم والقمع والفساد والتهميش, ولم يعد قادرا على القبول بها بعد الآن لأنه لم يعد به طاقة لذلك, وشاء مبارك ونظامه الاستبدادي أم أبى، فإن الوضع الثوري الذي لابد من توفره قبل حدوث الثورة كما يقول لينين، قد توفر فعليا الآن، وهو يظهر من خلال عجز مبارك ونظام حكمه على القيام بأي فعل مؤثر لإرهاب المنتفضين، وبدا جدياً للمرة الأولى أنه لم يعد قادراً على الاستمرار في الحكم كما كان سابقاً، ولم يعد الشعب يرضى بذلك على الإطلاق.
يشخص المفكر الكبير عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» ما يسميه «داء الاستبداد السياسي»، ويصف أقبح أنواعه: استبداد الجهل على العلم واستبداد النفس على العقل. و يقول إن الله خلق الإنسان حرّا، قائده العقل فكفر وأبى إلا أن يكون عبداً قائده الجهل، ويرى أن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور. وأن تراكم الثروات المفرطة، مولد للاستبداد، ومضر بأخلاق الأفراد. وأن الاستبداد أصل لكل فساد، فيجد أن الشورى الدستورية هي دواؤه)..
ها هو الشعب المصري المتنفض، الذي يملآ الساحات والشوارع في القاهرة وبقية المدن، يرفع مستوى طلباته وشروطه، فقد كان يرضى برحيل الرئيس وأركان حكمه، ثم صعّد أكثر باتجاه تغيير النظام، وقبل أن يصل الآن إلى المطالبة بمحاكمة رموزه ومعاقبتهم عقاباً شديداً على ما فعلوه بالشعب المصري، اليوم وليس غداً، وإن غداً لناظره قريب.