الحركة الشعبية..إلى أين؟

الحركة الشعبية..إلى أين؟


مرّ على ظهور الحركة الشعبية في سورية عام وبضعة أشهر، وما زالت الأحكام الخاطئة عليها من مكونات الفضاء السياسي القديم- النظام وقوى المعارضة اللاوطنية- وما ينتج عنها من سلوك سياسي، هي العدو الرئيسي للحركة الشعبية، النظام يسميها «مؤامرة» ويجاهد يائساً للقضاء عليها مستخدماً شتى صنوف القوة بحقها،

 والتي لم ينتج عنها إلا المزيد من الاستياء منه، والإصرار على مواصلة النشاط السياسي ضد بنيته الحالية، ومعارضة اسطنبول وحواشيها تسميها «ثورة» في محاولة كسب مجاني للسلطة، حتى ولو على حساب التفريط بكرامة الوطن ووحدته، عبر محاولة جعل الحركة الشعبية أداة لاستجلاب التدخل الخارجي، من خلال دفعها للتسلح والعنف بالتواطؤ مع الغرب والرجعية العربية..

 

ظهرت الحركة الشعبية موضوعياً، كدرجة نشاط سياسي عال في أوساط الجماهير، وبحالة استقلال نسبي عن الحركة السياسية القائمة، كنتيجة لعجز الفضاء السياسي القديم عن التمثيل الحقيقي للقوى الاجتماعية بشكلها المعاصر والتي طرأت عليها تغيرات جوهرية مقارنة بشكلها السابق التي كانت عليه عندما انبثق عنها الفضاء السياسي القديم من> عقود خلت..

ومع استمرار عجز الفضاء السياسي القديم «سياسياً»، فإن الحركة الشعبية ذاهبة إلى أن تكون فضاء سياسياً جديداً، لا يأخذ من القديم إلا العناصر الواعية لجوهر التغيير المطلوب على مستوى المجتمع والدولة، أي القوى التي تمتلك برنامجاً حقيقياً للمرحلة المقبلة، وبمعنى آخر هي ذاهبة لأن تنفي عنها طابعها العفوي وتنظم ذاتها في حركة سياسية جديدة، إلا أن هذا التغير لن يسير بطريقة سلسة وآلية، بل هو مرهون بدرجة كبيرة بتفاعلات الأزمة اليوم على المستوى الداخلي، وبما يستجد من أشكال في الصراع، وبالوضع الدولي الجديد، وتداعيات الأزمة الرأسمالية العالمية..

 

فما الذي استجد اليوم؟

يمكننا اعتبار «تحذيرات» هيلاري كلينتون، وسعود الفيصل وزير خارجية السعودية، والعديد من المسؤولين الغربيين، من احتمالات نشوب حرب أهلية في سورية، بعد مجزرة الحولة، بمثابة إعلان تلك الدول عن نية دعم حرب أهلية في سورية، والذهاب إلى خيار تفكيك جهاز الدولة السورية من الداخل، بعد أن استعصى خيار تفكيكها من الخارج، تماماً مثلما حذروا في السابق من التسلح كتمهيد لدعمه كخيار بعد «نفاد الخيارات والصبر»، إلا أن اندلاع حرب أهلية في سورية، هو بحاجة إلى مقدمات، وتمهيد للرأي العام الداخلي والخارجي، وليست مجزرة الحولة البشعة إلا خطوة في هذا الطريق، فالغياب شبه الكلي للمعلومات التي تحيط بهذه المجزرة، على الرغم من حجمها الكبير والمستوى العالي الذي نفذت به، هو دليل أنه من المطلوب من هذه المجزرة، ومن غيرها، أن تكون أدوات لخيارين لا ثالث لهما: إما التدخل العسكري أو الحرب الأهلية، الأمر الذي يدلل على أنه من المتوقع أن تتكرر مثل هذه الأحداث، وهو يشكل مادة دسمة للتراشق السياسي والإعلامي والعسكري للنظام والمعارضة كما رأينا في الأسابيع الماضية، وخصوصاً أن كلا الطرفين يتوقان إلى «المواجهة» والعنتريات على حساب البلاد والعباد..

بدأ يتضح للجماهير الناشطة سياسياً، أي للحركة الشعبية، أكثر فأكثر مدى تدني المسؤولية الوطنية والأخلاقية للطرفين المتصارعين على السلطة، النظام الذي يخلط بين الحركة الشعبية، التي هي قَدر موضوعي، والمؤامرة التي يمكن موضوعياً التصدي لها، هو عملياً يطيل عمر المؤامرة عبر ربطها مع الحركة الشعبية طويلة العمر أصلا. المعارضة اللاوطنية التي تمثل المؤامرة سياسياً وتجلب الويلات والتخوين للحركة الشعبية، وحتى القمع: «الإضراب أو الإحراق»الأخير نموذجاً في دمشق وغيرها، والاغتيالات لشخصيات معارضة وموالية، والإقصاء والاتهام بالتشبيح والعمالة للنظام..ألخ.

من زاوية التناقض الموضوعي بين الجديد والقديم، والذي كان يتجلى خلال عمر الأزمة، من خلال ممارسات النظام والمعارضة على حد سواء، المذكورة آنفاً، فإنه من الطبيعي أن تبدأ الحركة الشعبية، من «المعارضة والموالاة» ضمن التوصيفات الشائعة، بعملية نفي الطابع العفوي المنفعل، وتنظيم الصفوف، ورسم الحدود مع المعارضة اللاوطنية والنظام، وصولاً إلى القطع معهما، وهذا بالعمق هو تصفية الثنائية الوهمية(نظام- معارضة) التي لطالما عقدت الفرز ودفعته باتجاهات ثانوية، وغيبت الفرز على أسس وطنية واقتصادية- اجتماعية وديمقراطية..

من المبالغة القول إن الحركة الشعبية بدأت تنظم نفسها سياسياً، لكن يمكن القول إن المناخ أصبح جاهزاً لذلك، وخصوصاً بعد تأخر النظام في الحل السياسي، بعدما كان يوافق إعلامياً على الأقل عليه، فموقفه العملي جاء مخيباً لآمال جماهيره بالدرجة الأولى، وخصوصاً أولئك المبشرين بالإصلاحات التي ماانفك النظام يتغنى بها، بمجرد زوال المحنة الأمنية عن سورية كما يعتقدون، أما المعارضة اللاوطنية فهي كانت قد تنكرت للحل السياسي منذ أن تعهدت بجلب التدخل العسكري والعقوبات الاقتصادية للبلاد..

إن تعنت الطرفين المذكورين قد بدأ يفقدهما قواعدهما الجماهيرية، وبالتالي يفقدهما الهيمنة على الجمهورين الموالي والمعارض، بما يعني ذلك من بدء تغير قواعد اللعبة لمصلحة الفرز الحقيقي وخصوصاً بعد اشتداد الأزمات الاقتصادية الاجتماعية والوطنية والديمقراطية، والتي لا ولن تميز بين معارض وموالٍ، التي يتحمل الطرفان المسؤولية عنا على حد سواء..

إن الحركة الشعبية سواء تعرضت للقمع أو محاولات مصادرة دورها أو ركوبها أو ادعاء تمثيلها، هي في طريقها إلى فضاء سياسي جديد، يحمل في أحد جوانبه الحركة الثورية الحقيقية..