جهاز الدولة مآلات ممكنة ...معالجة أولية!
إن الانطلاق من التعريف الماركسي لجهاز الدولة على أنه جهاز قمع بيد الطبقة المهيمنة على الطبقات المهيمن عليها هو توصيف دقيق ومجرد لأي جهاز دولة بالعالم، لكن الناظر العادي إلى جهاز الدولة يرى به جهاز تسيير وتنظيم للعلاقات المختلفة والمتباينة بين القوى الاجتماعية اكثر من ملاحظته لفكرة القمع بالملموس
فما يظهر للناس من جهاز الدولة هو المؤسسات ابتداءً بالمؤسسة العسكرية والأمنية والوزارات وصولاً الى مخفر الشرطة أو البلدية، وهي عملية الإدارة وتنظيم شؤون الناس أما القمع فهو مايلمسه الناس بشكل فج في حالات الاضطراب فقط.
البنية التاريخية
تظهر الحالة السورية أن جهاز الدولة السوري قام من حيث قاعدته الطبقية على توازن بين الطبقات، فالبرجوزاية التي انطلقت مع الاستقلال كانت إحدى القوى التي أمن جهاز الدولة مصالحها ولو جزئياً سواء قبل الوحدة والتي كانت مرحلة ازدهارها وتكوينها أو حتى بعد مرحلة التأميمات والدخول في سيطرة حزب البعث الاشتراكي. مثلما أن العديد من الانجازات الهامة تحققت على صعيد احتواء جهاز الدولة لمصالح فئات الشعب الأخرى كالطبقة العاملة والفلاحين، كما أن التوازن الدولي في ذلك الوقت أمن عدم الحسم في منطقتنا وذلك لاشتداد الصراع الدولي في منطقة لها ابعاد جيو سياسية هامة.
تجلى هذا التوازن في مراحل الخمسينيات والستينيات بالموقف الوطني والذي يعبر في جوهره عن تناقض مصالح الغرب مع مصالح البرجوازية الوطنية الصاعدة إضافة إلى تناقضها مع مصالح فئات الفلاحين وعموم الطبقة العاملة. جاء هذا التناقض بنية وسلوكاً في مرحلة تاريخية تمثلت بوجود قطب للشعوب مثله الاتحاد السوفييتي، ومع تراجعه بدأت تتبدل الأمور ولكن طبيعة سورية الجيوسياسية إضافة إلى البنية الوطنية لجهاز الدولة المتشكل بشكل أساسي من الجيش كان قد حقق وزنا هائلاً ومستقلاً عن كل القوى السياسية وخاصة من حيث ثبات موقفه من القضية الوطنية.
عانى هذا التوازن من العديد من التبدلات في مصالح الشرائح الطبقية، فالبرجوازية الوطنية التي ضربتها مرحلة التأميمات سرعان ما استبدلت ببرجوازية تجارية تتبع مصالح المراكز الرأسمالية بينما تقدمت فئات البرجوازية الصغيرة والتي عكس تقدمها حالة التوازن الجديد في جهاز الدولة حيث قامت البرجوازية الصغيرة على فكرة قمع كلا الطبقتين مع تأمين مصالحهما جزئيا في مواجهة مع مصالح الخارج وهو مايعرف بالنزعة البونابارتية.
تمخض ذلك الواقع عن السمات الأساسية لجهاز الدولة في سورية:
1 - تأمين حد أدنى من مصالح مختلف الطبقات بدرجة عالية من التوزان.
2 - استقلال نسبي في العديد من المواقف السياسية خاصة في مجال القضية الوطنية وهي خاصة قائمة على عوامل تخص الصراع الدولي والموقع الجيو سياسي أيضا.
3 - التضخم والهيمنة على المجتمع نتيجة لتأمين توافق بين مصالح مختلف الطبقات.
تنم هذه السمات عن مراحل السكون النسبي الذي أمنته توازنات الصراع الدولي حينها إضافة إلى توازنات الصراع الداخلي الطبقي ضمن المجتمع. لكن نزوع البرجوازية الصغيرة إلى التطور إلى برجوازية كبيرة وتمدمد البرجوازية الطفيلية ومساهماتها في إفساد جزء هام من جهاز الدولة وخاصة في مؤسسات القطاع العام،أطلقا مايسمى بالبرجوزاية البيرقرواطية والتي عكست مصالح قوى الفساد في جهاز الدولة.
إن هذه التطورات الطبقية ظلت بعيدة عن تجليات سياسية واضحة فعلى الرغم من أن قوى الفساد والبرجوزاية هيمنت على القرار الاقتصادي إلا أن الدور الوطني لجهاز الدولة الممثل بالجيش بشكل أساسي سمح باستمرار التوتر مع دول الغرب الراسمالي، بينما مارس القرار الاقتصادي المتوافق مع الغرب ضغطا على المجتمع، فولد احتقانا عميقا تراكم وتسارع في السنوات الأخيرة ليصار إلى اصطدام المجتمع مع البنى السياسة الجامدة وهي القاصرة عن استيعابه مما أشعل الشارع السوري.
التطورات في خضم الصراع:
ولد هذا الاصطدام الحركة الشعبية التي انطلقت لتعبر عن تعارض مصالح أغلبية فئات الشعب على هيمنة الطبقات الأخرى (برجوزاية طفيلية- بيروقراطية) على العديد من مفاصل جهاز الدولة، مما حول الشرائح الأوسع من المجتمع إلى البحث عن معبر جديد خارج نطاق جهاز الدولة والحركة السياسية السابقة. كانت الجماهير تزداد انفضاضا عن جهاز الدولة مع تصاعد الأحداث وتبني النظام للحل الأمني، فجهاز الدولة يستند إلى هذه القوى الاجتماعية، وهو عندما يمثل مصالح البرجوازية الممعنة في نهب المجتمع ليعود ويتبنى موقفا يتعارض مع مصالح الغالبية العظمى، سيفقد تمثيل مصالح غالبية فئات الشعب وهو ماتم التعبير عنه بشكل واضح من خلال بحث غالبية الناس وحتى من مؤيدي النظام عن حل سياسي مخالف لطريق الحل الامني.
إن الاستياء الجماهيري الملحوظ من جهاز الدولة ينعكس داخل هذا الجهاز على التوازنات السابقة، فالحل الأمني يفرغ جهاز الدولة من العديد من مضامينه الاجتماعية، وهو أخطر ماقد ينتجه جهاز الدولة على صعيد بعض أجزائه وهو ما يمثله الآن تفلت بعض القوى داخله لتعبر عن مصالح القوى الفاسدة، ليس فقط من حيث المضمون بل من حيث السلوك الميداني. أي بمعنى آخر ممارسة بعض القوى داخل جهاز الدولة دور الميلشيات الطائفية كمعبر عن مصلحة البرجوزاية البيروقراطية بالاستمرار في نهبها وإشغال الناس في قضايا الصراع الطائفي، طبعا بتوافق وتبادل للأدوار مع البرجوازية الطفيلية التابعة للغرب وهي الموجودة في المجتمع أو بين صفوف المعارضة اللاوطنية.
إن مساعي هذه القوى وغيرها لن تكون فقط بتمثيل مصالحها من خلال هذه السلوكيات، بل من خلال ضرب الدور الوطني التاريخي لجهاز الدولة أي تمدد هذه البرجوازية إلى الأمام عن طريق ضرب المكتسبات التاريخية التي خسرتها البرجوازية سابقا، وهو ما سيترجم غالبا بمساعي التماهي مع الخارج أكثر في المستقبل أو عن طريق السيطرة على الحل السياسي . إن هذا التماهي لا يمكن أن يتم دون تفجير العمود الفقري في جهاز الدولة وهو الجيش السوري المعبر التاريخي عن مصالح فئات الشعب الوطنية، كما أن هذا التماهي لا يمكن أن يتم دونما تعبيرات على مستوى الثقافة الوطنية، فالموقف الوطني التاريخي انعكس على صعيد ثقافة التنوع والتسامح الديني والطائفي في المجتمع بينما سيعبر التماهي مع الخارج عن تعبيرات لاوطنية سيكون اخطرها وافقعها المعبرات الطائفية.
وحدة الجيش والشعب وتلازم المصير:
إن تراجع دور جهاز الدولة بشكل عام وتمثله لمصالح البرجوازية بأنواعها سيسمح للقوى الاجتماعية المتضررة بالانطلاق مجددا، وخاصة تلك التي ظلت ترى فيه أنه حافظ للأمن بالحد الأدني لكن مع تراجع دور الدولة حتى في هذه المهمة ( طبعا لايعود ذلك فقط لسياسة الحل الأمني بل يضاف إلى ذلك العنف المضاد المتولد والتدخل الخارجي غير المباشر) سيسعى المجتمع على تغطية هذا الدور من خلال موقف واضح معارض لسلوكيات جهاز الدولة ولقوى المعارضة الاقصائية واللاوطنية في الوقت نفسه.
إن هذا التطور المفترض المبني على تحولات بنية جهاز الدولة وعلى سلوك محتمل للحركة الشعبية سيزيد الضغط على بنية هذا الجهاز وهو ما سيسهم بفرز قواه، فإذا كان الحل الأمني البحت معبراً عن سلوك قوى الفساد فالموقف الوطني التاريخي للجيش يعبر عن مصالح الشرائح المنهوبة، وهذا الموقف سيتلاقيى بشكل ما مع الميل الايجابي المتصاعد للحركة الشعبية ليشكل الأرضية الآنية والمستقبلية الحاملة للموقف الوطني التاريخي. وهو سيلاقي أيضا مصلحة هذه القوى الاجتماعية في ضرب مصالح البرجوزاية سواء بحلولها الحالية أو بمساعيها للارتباط بالخارج أكثر.
إن تطورات الواقع الموضوعي تنم أكثر فأكثر عن ضرورة وحدة الجيش والحركة الشعبية، وإن دفاع الحركة الشعبية عن الجيش الذي يعد نواة رئيسية في جهاز الدولة، سيسهم في تعزيز قدرته على تصفية المصالح اللاوطنية الساعية إلى تفتيته سواء باستهدافه مباشرة أو عبر استمرار تضمين مصالح قوى اجتماعية ضمن المصالح المهيمنة على جهاز الدولة وهو الذي لايتفق معها وطنيا على الأقل.