«المؤتمر الدولي» وقوى المعارضة من على يسار من ؟؟
مرة أخرى، يثبت دعاة الحل السياسي، كمخرج وحيد من الأزمة التي تمر بها سورية، صحة وصواب طرحهم السياسي منذ البداية. فقد أعلن الميل العام، على الصعد الدولية والإقليمية والداخلية كافة، نحو الحل السياسي كسبهم جولة أخرى ضد المتمسكين بتجربة سلاح منيت بالفشل، والقصور عن تحقيق أوهامها في «الحسم العسكري- إسقاط النظام»
وتعدّ التحضيرات الجارية اليوم لعقد «المؤتمر الدولي» حول سورية إحدى ثمار التوافق الروسي-الأمريكي على الشكل، وفقط الشكل، الذي يجب أن يأخذه الصراع في سورية. وقد بدأت الأطراف الدولية عملياتها المتمثلة بتجهيز كل من لم يزل يحتفظ بعقلية الشكل القديم للصراع من القوى السياسية السورية، ورغم صعوبة الانعطاف الذي تبديه بعض هذه القوى إلا أنه بات من الواضح أن مصيرها محكوم بالالتحاق بركب الحل السياسي..
وترافق التجهيزات للمؤتمر مجموعة من الإجراءات والمحاولات الدولية للتأثير مسبقاً بمجرياته، فتستخدم بعض الدول ما تيسر لها من أدوات، لإعطاء وزن أكبر لمن تراه أكثر جاهزية من القوى السياسية لأداء مهمة تمثيل مصالحها الاستراتيجية خلال المؤتمر. وقد انعكست هذه المحاولات على أداء بعض وسائل الإعلام، فدخلت كذلك في لعبة الأوزان، وأصبحت، على سبيل المثال، هي من تفرض أن هذه القوى السياسية أو تلك هي «أثقل التنظيمات المعارضة في سورية وزنا». ولم يكن مثيرا للاستغراب ما تتعرض له اليوم الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير المعارضة من حملة هجوم شعواء عليها، وإن الأداة الأمثل لهذا الهجوم بالطبع، هي الحجة القديمة الجديدة المتمثلة باتهامها بأنها جزء من النظام السوري، عبر مشاركتها في «حكومته». وهذا ما يدفع لدراسة نهج وسياسة بعض قوى المعارضة السورية، للوصول إلى استننتاج واقعي يجيب على تساؤل مشروع مفاده: من على يسار من في المعارضة السورية؟؟
على المستوى الاقتصادي الاجتماعي:
لم يعد خافياً على أحد حجم المعاناة التي قاساها الشعب السوري نتيجة السياسات والتوجهات الليبرالية، التي اتبعها الفريق الاقتصادي قبل الأزمة، وحجم المعاناة التي يساهم بخلقها اليوم أولئك المتمسكون بهذا النهج، من قوى فساد كبير داخل النظام تقاتل في سبيل إبقاء الاقتصاد السوري اقتصاداً تابعاً للغرب، فكيف صاغت بعض قوى المعارضة موقفها على الصعيد الاقتصادي- الاجتماعي؟
في الحقيقة، ليس بالغريب ألا يجرؤ «ائتلاف الدوحة»، وقبله «مجلس اسطنبول»، يوماً على مهاجمة السياسات الاقتصادية للنظام، من زاوية رفض التوجهات الليبرالية، فمن الطبيعي ألا تعارض القوة السياسية، المحكومة بنيوياً بمنطق التبعية لدول تستقي منها ثقلها ووزنها السياسيين، توجهات قوى النهب داخل النظام لفتح المزيد من الثغرات للغرب كي يعبث باقتصاد سورية. لا بل لعلها ترى في ذلك إحدى الإيجابيات السياسية التي يجب الإبقاء عليها..
في المقابل، لم تحدد «هيئة التنسيق» موقفها علنا من السياسات الليبرالية، إلا أننا لو أردنا البحث عن جوهر رؤيتها الاقتصادية في بيانها التأسيسي، لوجدنا دعوات على شاكلة: «تحسين أوضاع القوى العاملة والفئات الفقيرة والمتوسطة، وإشراك البرجوازية الوطنية في عملية النهوض الاقتصادي، وتوفير الشروط والضمانات لعودة رؤوس الأموال المهاجرة». ولا إشارة هنا أو هناك عن رؤيتها للدور الاقتصادي- الاجتماعي الذي يجب أن يلعبه جهاز الدولة..
أما عن «الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير»، فقد حددت موقفها الحازم الداعي للقطع الكامل مع السياسيات الليبرالية، والتوجه لصياغة نموذج اقتصادي جديد، يحقق أعلى نمو وأعمق عدالة اجتماعية، ولم تكتف بالدعوة العلنية لمحاربة الفساد الكبير داخل جهاز الدولة، بل خاضت معه، عبر دخولها للحكومة السورية بشروطها البرنامجية، التي لا تمثل أكثر من 10% من برنامجها السياسي، معارك طاحنة لم تزل رحاها تدور بالتوازي مع محاولات قوى التشدد في النظام الرامية إلى تشويه صورتها، وتحميلها أعباء قرارات الأكثرية الحكومية، وصولا إلى «تطفيشها» من الحكومة. وهنا يتبين الموقع المتقدم للجبهة عن باقي قوى المعارضة التي، على الأقل، فضلت أن تبقى بعيدة عن معركة استعادة جهاز الدولة. ولم نتكلم عن التأثيرات السلبية للعقوبات الاقتصادية التي رحب «الائتلاف» بها والإضرابات التي دعت «الهيئة» إليها، لتعذّر اختزالها في هذه المادة..
على المستوى السياسي:
لم يقبل «إئتلاف الدوحة» لنفسه، في وثيقة ثوابته، بأقل من «إسقاط النظام بكل رموزه وأركانه، وتفكيك الأجهزة الأمنية، وعدم الدخول بأي حوار أو مفاوضات مع النظام»، ولم يترك مناسبة تفلت من يديه، هو و«مجلس اسطنبول» سابقاً، دون استثمار منبرها، لاستدعاء التدخل العسكري الخارجي، والدعوة لإنشاء مناطق عازلة، والسعي للاعتراف الدولي بحكومته، والدعم عبر السلاح والمال. ولم تلبث ثوابته تتبدد، بعد إنعطاف الدول الداعمة له نحو الحل السياسي، وهذا ما يفسر حالة التخبط التي تمر بها بعض قياداته بين كفة أوهامها، وكفة ضغط الدول المؤسسة، ولا داعي لذكر أي الكفتين سترجح..
تشترك «هيئة التنسيق» مع «الائتلاف» في رفعها لشعار «إسقاط النظام»، وإن كانت ترددت قبل تبنيه، ولم يكن لها موقف ثابت من التدخل الخارجي، فرفعت شعار «لا للتدخل الخارجي» في الوقت ذاته الذي دعت فيه للتدخل العسكري العربي، على اعتباره «غير أجنبي، وبالتالي غير خارجي»، ورفضت العنف في ذات الوقت الذي اعتبرت فيه «الجيش الحر جزءاً من الحراك الثوري». أما موقفها من الحوار، فقد تدرج من إطلاق بعض قياداتها لشعار «لا حوار مع النظام» في البداية، إلى القبول به لكن بشروط شتى، ثم القبول بالتفاوض، كما تحب «الهيئة» أن تسميه..
في المقابل حددت «الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير» موقفها الواضح من التدخل الخارجي في الشؤون السورية، بشقيّه السياسي والعسكري، ودعت للحل السياسي عبر الحوار، كمخرج آمن وناجز ووحيد من الأزمة السورية، وكذلك رفعت شعار تغيير النظام تغييرا جذرياً شاملاً، وهو ما يعاكس شعار «إسقاط النظام» المتمثل، حسب تجارب المحيط، برحيل رأس الهرم والإبقاء على النظام. وإذا كان رفع الشعار الممثل للمصلحة الشعبية، وإدراك مدى إمكانية تحقيقه، هي إحدى صفات المعارضة الثورية، فيتبين لنا من جديد أن الأهداف التي رفعتها «الجبهة الشعبية» كانت أكثر ثورية ممن أراد الإصرار على شعارات أثبتت الأزمة استحالة تحقيقها، وكان الدم ثمناً للتعنت برفعها..
على المستوى الوطني:
تتحدد القضية الوطنية بمعناها العام في سورية بعاملين أساسيين، أولهما وهو الموقف من الولايات المتحدة الأمريكية، ورأس حربتها في المنطقة الكيان الصهيوني، وثانيهما وهو الموقف من قضية تحرير الأراضي العربية المغتصبة، وقوى المقاومة في المنطقة، وتحديد أي دور إقليمي لسورية في الصراع العربي الصهيوني..
لا يرى «ائتلاف الدوحة» في الولايات المتحدة الامريكية إلا سنداً و«حليفاً ديمقراطياً» يساعده في تطلعاته، ولا ترى الولايات المتحدة الامريكية في «الائتلاف» سوى قوة سياسية تابعة لها وهي من صنعتها. أما الموقف من كيان العدو فلا وجود له في قواميس «الائتلاف»، إلا إذا كانت إمكانية توظيفه في سياق المهاترات الإعلامية كبيرة..
أما «هيئة التنسيق»، فيطغى الطابع الحقوقي على خطابها السياسي. فعديدة هي بياناتها التي تندد بالعدوان الصهيوني المتكرر، وتعول فيها على الضمير الدولي في الوقوف إلى جانب شعبنا في قضيته الوطنية، وكبح جماح العدو وثنيه عن تكرار عدوانه. أما فيما يخص الولايات المتحدة والغرب، فالعديد من قيادي الهيئة يعتبر أن انفتاحها على الجميع هو نقطة قوة تسجل لمصلحتها..
في المقابل يبدو موقف «الجبهة الشعبية» أكثر صلابة، فالموقف من الإمبريالية الأمريكية وذراعها في المنطقة الكيان الصهيوني واضح تماماً، إذ لطالما دعت إلى استعادة الدور الاقليمي لسورية في معادلة الصراع العربي- الصهيوني، وانتقال سورية من مواقع الممانعة إلى المقاومة، وإيجاد سبل خلق الاقتصاد المقاوم أساساً لا يمكن للدولة أن تكون مقاومة بدونه، وأخيرا العمل على استعادة الأراضي المغتصبة عبر المقاومة الشعبية وتشكيل «ألوية الجبهة الشعبية للتحرير»، وعبرت دائما عن ربطها ما بين التغيير والتحرير واستحالة الفصل ما بين القضيتين الاقتصادية –الاجتماعية والوطنية..
الشعب هو من يقرر:
إن ما سبق يؤكد على موقع «الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير»، كقوة معارضة غير تقليدية تعرضت، وما زالت تتعرض، إلى محاولات حثيثة لتشويه صورتها من قبل من هم على يمينها، ورغم هذه المحاولات، لا تزال تدعو إلى ضرورة لجم الخلافات والتناقضات الثانوية ما بين القوى الوطنية، في سبيل تأمين المخرج الآمن والتام للأزمة السورية، وإنجاز التغيير الجذري والشامل الذي ينشده السوريون.. وأما عن تحديد الوزن الحقيقي لكل قوة سياسية في سورية، فالفيصل هو الشعب السوري، عبر تمثيله في الأحزاب والتكتلات السياسية التي تحمل في جعبتها برنامجاً سياسياً واضحاً. وكل ما يقال قبل ذلك، ما هو إلا محاولات عبثية تهدف إلى إثقال بعض القوى السياسية، ممن تفقد حجم التأييد الشعبي الكافي لها لتتقدم عن باقي القوى السياسية..