الافتتاحية: مرةً أخرى.. الاشتراكية هي الحل
ليس انطلاقاً من تعميمات نظرية عامة ومجردة، وليس انطلاقاً من كونها هدفاً استراتيجياً بعيد المدى، وإنما انطلاقاً من وقائع الأسابيع الأخيرة.. الاشتراكية هي الحل!.
فالانتفاضة الشعبية التونسية تثبت في مرحلتها الحالية بعد اقتلاع الرئيس السابق أنها أمام مفترق طريق؛ إما أن تذهب باتجاه إعادة توزيع الثروة- ثروة الناهبين بشكل عام وليس فقط بعض المرتشين الكبار- وأن تبني نموذجها الديمقراطي الذي ظهرت نواتاته الجنينية باللجان الشعبية التي تشكلت عفوياً، وإما أن ترضى بإصلاحات تجميلية ترقيعية على جسم النظام السابق العميل للصهيونية وإسرائيل، والتابع المطيع للمراكز الرأسمالية العالمية، والقامع بشدة للجماهير الشعبية تاريخياً، حمايةً للطبقة التي يمثلها من الناهبين لثروة المجتمع والدولة..
لقد تنازلت البرجوازية التونسية وممثلوها السياسيون عن بعض ممثليها تحت ضغط الجماهير للحفاظ على النظام كله.. ولكن المعركة ما تزال مفتوحةً، والذي يمكن قوله الآن: إن مآل المعركة الاجتماعية سيحدد مصير الديمقراطية الوليدة في تونس، فإما أن تُقزّم، وحتى أن تقمع تطلعات الجماهير مرةً أخرى، وإما أن تتجذر هذه الديمقراطية وأن يبنى نموذجها الجديد في خدمة مصالح الجماهير الشعبية الواسعة.
إن الطبقة الحاكمة في تونس في حالة تراجع أمام المد الشعبي، وهي تحاول التقاط أنفاسها لتعيد ترتيب أوراقها محاولةً كسب المزيد من الوقت للالتفاف على الحركة الشعبية التي تُكوّن فضاءها السياسي الجديد، والتي ينمو ساعدها يوماً بعد يوم في ظل المعركة القائمة.. والتي لابد أن تسير باتجاه إعادة توزيع الثروة جذرياً إذا أرادت الحفاظ على انتصارها.
ـ أما في لبنان، وفي ظل المعركة التي تتطور مهددة بانفجار خطير، فإن المعركة الوطنية القائمة لن تصل إلى بر الأمان إلاّ إذا حسمت المعركة الاجتماعية وجُرّدت القوى المنفذة للمخطط الإمبريالي الغربي- الأمريكي- الصهيوني من أهم أدوات سيطرتها الاقتصادية.. فالمعروف أن ميزان القوى شعبياً وميدانياً محسوم لمصلحة القوى الوطنية.. ولكن ذلك لا يكفي لحسم المعركة الوطنية مع أنه شرط ضروري لها..
فالذي يحكم لبنان وبحكم أوضاعه الخاصة يحكم المصرف المركزي اللبناني، والمصرف المركزي اللبناني يحكم الليرة اللبنانية.. ومن هنا لابد أن تثير القلق التصريحات الأخيرة لحاكمه الذي قال إن وضع الليرة اللبنانية مهدد في ظل الأزمة السياسية الحالية.. مع أنه منذ أسابيع قليلة سبقت انفجار الأزمة كان يؤكد العكس تماماً.. إن محاولة اللعب بسعر صرف الليرة اللبنانية، هو محاولة للعب بميزان القوى السياسي في لبنان، فمن هو مضطر لحسم المعركة السياسية الوطنية في لبنان سيكون مضطراً لحسم موضوع السلطة على مصرف لبنان المركزي.
لقد انتقد ماركس في 1870 أبطال كومونة باريس لعدم استيلائهم على البنك المركزي، واعتبر ذلك أحد الأخطاء المميتة لأولئك الذين هبوا لاقتحام السماء.. والخلاصة تبين هنا مرةً أخرى أن حسم المعركة الوطنية يتطلب مرة أخرى البدء بحسم المعركة الاجتماعية.
ـ أما في مصر التي بدأت فيها الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية باكراً، والتي ترافقت مع تخلٍّ تام عن القضية الوطنية، فقد وصلت هذه السياسات إلى نهايتها المنطقية مع الإفقار الشامل للجماهير الشعبية التي لم يعد لديها شيء تخسره، فالفئات التي قامت بالإصلاحات الليبرالية مشبوهة أمام الشارع من حيث سمعتها الوطنية، ولذلك يمكن هنا ملاحظة الاندماج الكامل للشعارات والمهام الوطنية والاجتماعية والديمقراطية.. وأمام احتمال تكرر النموذج التونسي ليس من المستبعد أن تلجأ البرجوازية المصرية الجديدة إلى إصلاحات سياسية تجميلية لتفريغ غضب الجماهير وحرفه عن مساره المطلوب ولو مؤقتاً.. حتى لو تطلب الأمر التضحية بالرئيس نفسه!.
لقد فهم منظرو السياسات الليبرالية الاقتصادية الدرس التونسي جيداً، وكذلك يفعل مروجو هذه السياسات والقائمون عليها في طول المشرق والمغرب العربي، وهم يحاولون الآن استيعاب الصدمة عبر القيام ببعض الخطوات التراجعية الالتفافية الترقيعية من أجل الحفاظ على المنظومة كلها.. ولكن المشكلة أن الأزمة الرأسمالية العالمية في تعاظم وتعمق، وهامش متانة الرأسمالية كنظام قادر على تقديم حلول حقيقية يسير نحو الانخفاض والتلاشي.. والأمر أخطر كما يتبين في بلدان الأطراف الرأسمالية حيث فقدت أنظمتها الاقتصادية كل احتياطات متانتها ومناوراتها.. والدليل الأكبر على ذلك هو قمة شرم الشيخ الاقتصادية التي اعترفت بمشكلة البطالة على أمن المجتمعات ولم تستطع أن توظف لحلها 1% من الموارد الضرورية لذلك..
إن ركبهم تصطك خوفاً ولكن ما باليد حيلة.. فقد وصلت هذه المنظومة إلى وضع أصبحت فيه غير قادرة على حل أية مشكلة، بل أصبحت هي نفسها المشكلة.
إن قبضة الإمبريالية العالمية قد وهنت اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وبدأت تلوح في الأفق القريب الآفاق البديلة الجديدة، وقد قرعت الانتفاضة التونسية الجرس الأول لها.. إن محاولة الإمبريالية الأمريكية الاعتراف بالموجة والتخلي عما هو ممكن التخلي عنه، هو محاولة بائسة لتوجيه وحرف الموجة الثورية عن مسارها وأهدافها النهائية..
إن ميزان القوى السياسي والاجتماعي عالمياً وإقليمياً ومحلياً في كل مكان.. بدأ يميل لغير مصلحتها، وهو يصنع قواه السياسية الفاعلة على الأرض التي ستقوى بقدر تعبيرها بشكل صحيح عن مصالح الناس الجذرية ضد الفقر والبطالة والاضطهاد.
وستثبت الحياة أن الحلول الترقيعية المؤقتة إنما هي مضيعة للوقت، فالمطلوب هو حلول اجتماعية جذرية لضمان الانتصار في المعركة الوطنية الكبرى التي تدق الأبواب.. وإذا لم نفعلها اليوم فهذه المعركة نفسها غداً ستطهّر بنارها مجتمعاتنا من دنس الليبرالية الاقتصادية التي أذاقت الجماهير الشعبية المرارة في عيشها وأهانتها في كرامتها..
إن تحقيق كل ذلك هو الضمانة لكرامة الوطن والمواطن.