الحوار كسياسة
درج متشدّدو الموالاة والمعارضة منذ بداية الأحداث على إعتبار الحوار نوعاً من الرومانسية والمثالية السياسية، وسعوا لتحنيط الحوار والحل السياسي من خلال تصويره كإيقونة مثالية ولكنها مستحيلة على أرض الواقع، الحوار صحيح كدين وخاطئ كعلم، مطلوب كثقافة ومبدأ وغير مطلوب كسياسة، الحوار هواية أيام الملل وأوقات الفراغ،
أما اليوم فالفصل لرجال الحسم في الميدان. وكان المتشددون في المقلبين واثقين مما يقولون، وقالوا «لا للحوار..وأي حوار مع القتلة؟»، إذ ينبغي أن تقول إنك عاجز عن قول أي شيء.. ولم يبق أحد يدعو للحوار والقول، إلا أولئك الذين كان لديهم ما يقولونه، أصحاب البرنامج الواضح، الذين ينتصرون في إعلانه، لا لشيء إلا لأنه ينحاز إلى مستضعفي الطرفين، وينبذ المتشددين..
واليوم، يلوح الحل السياسي للأزمة في الأفق، وتتزايد الدعوات، على المستويين الشعبي والدولي، للبدء بعملية حوار وطني شامل، تحيل القوى اللاعبة في الأزمة إلى أوزانها الشعبية الحقيقية. فقد ثَبُت أن قوى التطرف في الطرفين المتصارعين غير قادرة على تحقيق الانتصارات السريعة التي وعدت بها،الانتصارات التي روجوا لها كإفيون جديد يغازل جراح البلاد. وبات التطرف يخسر جماهيره الطارئة التي كانت قد تعرضت لظلم وعسف المتشددين، وأصابتها حمّى الغضب وفورات الدماء، وبدأ الناس يدركون أن العنف واحد أياً كان مصدره، وأن من ينبغي إقصاؤه هو السلاح وحده فقط لاغير..
لذا تلجأ قوى التشدد في جولتها الجديدة ضد الحوار إلى تصويره كنوع من الاستسلام للآخر، وهذا غير صحيح إذا كان الأمر متعلقاً بجموع الجمهورين، الموالي والمعارض، وبممثليهم الحقيقيين. ولكنه صحيح إذا كان الأمر متعلقاً بالقوى المتطرفة المسلحة، فالحوار يعني استسلام السلاح لإرادة الغالبية الساحقة من الشعب السوري في الاحتكام لصراع طاولة الحوار، الصراع الحضاري الذي يكسب فيه الجميع.
يسعى كل من طرفي التشدد إلى تصوير دعوة الطرف المقابل للحوار على أنها نتيجة لهزيمة عسكرية، في محاولة لاستثمار المطالبات بالحوار في البروبوغندا الإعلامية البغيضة، والبرهنة على وجود انتصارات زائفة، بينما الحقيقة التي يراها الناس على الأرض تشي بغير ذلك، إذ لو كان في استطاعة أي الطرفين الانتصار عسكرياً لما تأخر لحظة. وينزلق إلى هذا الدور الإعلام الرسمي مجتراً تجربة الإعلام الخليجي في اللعب على هذا الوتر، ولكن تحت يافطة تسجيل النقاط على المؤامرة، ويصور النتائج الهامة لجهود المصالحة الوطنية ضمن منطق «الشرطة في خدمة الشعب»..
إن معركة الذهاب إلى الحوار لا تقل أهمية عن معركة الحوار بعينه، فبالنسبة لقوى التطرف يشكل الذهاب إلى الحوار انتحارا سياسياً جماعياً، وهذا هو جوهر عملية الحوار السياسي التي لم تكن يوما من الأيام عملية تطهر أو «تبويس شوارب» أوتصفية نوايا.. ألخ، بل هي صراع الرؤى والبرامج السياسية والأداة الأعمق للتغيير الحقيقي..