لا «شبيحة» ولا «دبيحة»!

لا «شبيحة» ولا «دبيحة»!

تزداد دقة عمل أدوات الأزمة السورية كلما لاحت في الأفق بوادر الحل السياسي الكفيل بانتهاء ما يُقاسيه الشعب السوري يومياً من سحق للحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم، ولعل أهم هذه الأدوات هو الانقسام الوهمي العمودي في بنية المجتمع السوري،

هذا الانقسام الذي ساهم طرفا الأزمة السورية في زيادة حدته وتبلوره في شكله الأكثر قدرة على شل وحدة الصف الوطني السوري، فـ«الشبيحة» و«الدبيحة» هما التعبير الأساس في الوعي الجمعي لظاهرة تسلح دعاة التطرف في النظام والمعارضة.

العنف نحو طريق مسدود

إذا ما استُبعِد القادمون من خارج سورية (وبدراسة بسيطة لماهية العناصر المسلَحة معارضة كانوا أم موالاة) يجد الباحثُ أن أغلب هذه العناصر تنتمي طبقياً إلى مَن هم ضحايا السياسات الاقتصادية الليبرالية للحكومات السابقة في سورية، أما عمرياً فتنتمي الأكثرية منهم إلى الفئات العمرية الشابة، مما ساعد هؤلاء المُعَطَلون عن العمل على تفريغ حقدهم الطبقي بأشكالٍ عدة كان الطائفي والثأري منها هو الغالب، عدا عن أن الكثيرين منهم وجد في التسلح سبيلاً إلى حلحلة وضعهم الاقتصادي قليلاً، لاسيما أن أموالاً طائلة رصدها طرفا الأزمة السورية تُدفعُ كرواتب شهرية لمن يحمل السلاح (والعديد منهم من قضى قبل استيفاء الراتب الأول!)، كل هذا التأزم ساهم بدفع هذه العناصر إلى القيام بالمزيد من الممارسات السيئة على الأرض، فبات طبيعياً على سبيل المثال أن يحمل من هو في الخامسة عشرة من عمره سلاحاً ويهمُ بتفتيش الخارج من والداخل إلى حيٍ ما، وتتعددُ الأمثلة بتعدد الأحياء والشوارع التي تشهد حضوراً للمجموعات المسلحة من كلا الطرفين.

إن التعويل على قرب موعد «الانتصار العسكري» ما هو في الحقيقة سوى وجه من أوجه تعبير الأطراف المتقاتلة عن عقم الأدوات العسكرية، واستحالة فرضية الحسم على الأرض باستخدام السلاح، ويحمل هذا التعبير في طياته معنى آخر، فالعنف في سورية وصل إلى أعلى المراحل التي يمكن لهُ أن يصل إليها، وهو في ذلك محكوم بالسقوط والتهاوي، وسقوطه هذا مرهون بجاهزية البديل، ولأن البديل غالباً ما يجهز نفسه في الوقت الذي يكون فيه الأصيل في طريقه نحو التلاشي، يعمد دعاة الحسم هذا إلى ضرب أي محاولة ترمي إلى تذليل العقبات أمام البديل، وأثبتت الحالة السورية أن البديل في الواقع لا يمكن أن يكون إلا حلاً سياسياً شاملاً عماده الرئيسي الحوار بين مكونات المجتمع السوري، من هنا فإن أية عملية عرقلة تحول دون البدء بالحل السياسي، يتحمل صاحبها جزءاً من المسؤولية عن نزيف الدم السوري الذي يُراق تبعاً ليس لعدد الأيام بل لعدد الساعات التي يُغيَب فيها الحل السياسي، حتى وإن كان المُعرقِل لا يترك منبراً إلا ويتشدق به عن ضرورة الحل السياسي والحوار!

مزاج شعبي جديد

راهن البعض على إمكانية أن يتحمل الشعب امتداد وتفشي ظاهرة التسلح لوقتٍ أطول، معتمداً في ذلك على إخضاعه (أي الشعب) لمنطق القبول بالوضع الراهن على أنه بديهي، إلا أنه ونتيجة لبشاعة ما كابده هذا الشعب من مصائب رافقت ظاهرة التسلح هذه، بدأ بالتبلور مزاجٌ شعبيٌ جديد، محوره الأساسي هو رفض كل أنواع السلاح الذي عاث بمساكن الناس فساداً، وقطع أرزاق العديد منهم، وحال دون تمكنهم من متابعة حياتهم بشكل طبيعي، وقد بدا الشعار الرئيسي المُعبر عن المزاج الشعبي الجديد هذا هو ما تمت المناداة به في العديد من المظاهرات (الشعب يريد إسقاط السلاح)، ويستمد هذا المزاج جديته في التحليل السياسي من خلال أن طرحه جاء ليس من الأماكن الأقل تسلحاً، بل أكثرها تعرضاً لويلات التسلح،  فشعار (الجيش الحر.. الله يهديك!) ظهر في مناطق أيدته (أي الجيش الحر) في البداية، من هنا فإن هذا المزاج الجديد هو ثمرة تجربة ومعايشة يومية لواقع التسلح.

إن سد الطريق أمام تفاقم الأزمة السورية بات متوقفاً على حصر السلاح بيد الجيش العربي السوري، هذا المطلب الذي شُوِهَ معناه الحقيقي، فلدى البعض كل من ينادي بحصر السلاح بيد الجيش هو في خانة الموافق والمهلل للأخطاء التي ظهرت منذ اليوم الأول الذي خرج به الجيش من ثكناته، ولكن الواقع يُثبت أن الحل لا يكمن بضرب وحدة الجيش ودعوة عناصره إلى «الانشقاق» والمساهمة بتفتيت وحدة وتماسك المؤسسة العسكرية، بل إن الحل الوحيد هو المساهمة في لجم أخطاء هذه المؤسسة والتدليل إلى أماكن عثراتها، وهذا يتطلب جهداً كبيراً عبر دراسة وضع الجيش دراسة علمية، وفي الحقيقة إن دراسة وضع المؤسسة العسكرية كدراسة حال أي مؤسسة أخرى، مرهون في بداية الأمر بإسقاط الحصانة عن المؤسسة، وإسقاط الحصانة هنا لا يعني المس بوطنية الجيش، بل يعني معاملة المؤسسة العسكرية كغيرها من المؤسسات المُعرضة للخطأ، والتي تحتاج دوماً إلى من يشير إلى أخطائها من منطلق الدفاع عنها نحو تصحيح هذه الأخطاء وضمان تماسكها.