افتتاحية قاسيون 485 كيمياء الإنفجار
تعيدنا أخبار الاضطرابات ذات الطابع الطبقي- الاجتماعي، المتحولة سياسياً، والقادمة من مغرب «الوطن العربي» ومشرقه إلى المعادلات المنطقية البسيطة التي تؤكد أن الإفقار يولّد الاحتقان، ويفضي إلى الانفجار.
وتقول معادلات الدول في بسط سلطتها إن مواجهة ذلك تستند أساساً إلى الحلول الأمنية بما تعنيه من سقوط ضحايا برصاص عناصر مختلف أجهزة «الضبط» والقمع، وتنفيذ اعتقالات، وتوجيه تهم.
أما النتائج المترتبة على الاحتجاجات والاضطرابات فغالباً ما تكون إحدى ثلاث: (أولاً) تحول الدولة لتثبيت سلطتها في البلد المفترض إلى البوليسية السافرة، (ثانياً) اتخاذ إجراءات احتوائية مؤقتة لتنفيس الاحتقان إيهاماً بتغيير مزيف، (ثالثاً) وإذا ما انعدمت لأسباب ما إمكانية السيطرة على الاحتجاجات، تجري الإطاحة بالنظام المفترض ليظهر نظام جديد تتحدد معالمه وسياساته بالقوى المحركة «للثورة» وتركيبتها واتجاهاتها وتجسيداتها الطبقية وتوازناتها و«تفاهماتها»، وربما الأهم بحجم التدخل الدولي بالحدث ككل.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن المحرك أو المحرض شيء، والحراك والانضمام العفويين بتوسع الحركة هو شيء، ومحاولات التحكم بذلك واتجاهاته من كل الأطراف المحلية والإقليمية والدولية هو شيء آخر.
بالعودة إلى الملموس فإن الطابع الطبقي بارز في الاحتجاجات التي تشهدها مدن وبلدات وقرى عديدة في تونس والجزائر وموريتانيا وتخوفات الحكومة الأردنية من مثيلاتها، وهو نتيجة للسياسات الليبرالية التي تثبت سوء مآلها وانسداد أفقها، والقاسم المشترك بين هذه الدول وغيرها من الدول المرشحة للانفجار هو أنها دول أعضاء في منظمة التجارة العالمية المستولدة من رحم «الغات»، وهي دول دخلت الشراكة الأوربية أو تتفاوض عليها وخضعت لشرط صندوق النقد والبنك الدوليين وطبقت من ثمانينيات القرن الماضي وصفات التكيف الهيكلي، أو الإصلاح الاقتصادي- كشعار مجرد- المستندة إلى الخصخصة وفتح الأسواق، والتي تتميز بسمتين أساسيتين: تراجع الدور الاقتصادي- الاجتماعي للدولة، وبروز دور المنظمات الدولية في تعديل الاقتصاد.
والنتائج الحقيقية لذلك بعيداً عن كل ادعاءات أبواق تلك الدول، بدليل تفجر الأوضاع ذاتها، هي: ضعف أرقام التنمية- اللهم إلا الخلبية منها، مقابل ارتفاع أرقام البطالة والفقر والتهميش، وانفلات الأسعار، وضعف المداخيل، وانخفاض القدرة الشرائية، ليبقى الأخطر هو إلغاء دور الدولة.
وعلى سبيل المثال تقول بعض الإحصائيات إنه كنتيجة طبيعية لتمركز الثروة خلال 24 عاماً في أيدي فئة قليلة من التونسيين، يستحوذ أغنى 10% من التونسيين على ما يعادل 32% من الناتج المحلي الإجمالي، ويسيطر أغنى 20% من السكان على 47% من الدخل الإجمالي في تونس، بينما لا يمتلك 60% من التونسيين سوى على 30% من الدخل الوطني.
هذا يشكل حاضنة ملائمة جداً للانفجار الشعبي الحقيقي والمشروع تماماً في تونس. لكن ضرورات التريث في التحليل تستدعي طرح الأسئلة عن لحظة الانفجار، وتداخل المصالح والأصابع: فهل يحاول بعض اللصوص ومحدثي نعمة الفساد من داخل نظام «بن علي» ذاته تصدير أزماتهم، تأثراً بالأزمة الرأسمالية العالمية، لإيجاد تعبيرات سياسية بديلة؟ وكيف سيكون انعكاس الاضطرابات على أوربا وفرنسا تحديداً بوصفها أحد أهم المستفيدين من خزان المستعمرات الأفريقية السابقة؟ وما هو دور الأحزاب والنقابات، بل وعن أية أحزاب يمكن الحديث في النظم العربية الاستبدادية (فهنا لا يجري الحديث عن اليونان أو ايرلندا أو بريطانيا أو فرنسا ولا عن فرز طبقي واضح المعالم)؟ ومَن مِن مختلف الأطراف يحاول أن يركب الموجة في الجزائر مثلاً، التي لم تعد فيها الثنائية كما كانت في التسعينيات: الجبهة الوطنية للإنقاذ (الإسلامية المتطرفة) مقابل النظام؟ وهل تسعى واشنطن عبر انتقاداتها المعلنة لطريقة التعاطي القمعي مع الاضطرابات إلى مصادرة دور الشعب التونسي والاستفادة منها لإدراجها على جدول أعمالها الانقلابي التفتيتي في المنطقة العربية، ولكن من غربها هذه المرة؟
واللافت عند هذه النقطة، من زاوية النخب الحاكمة في دول المغرب العربي وأفريقيا- المسماة الأسود الأفريقية «تنموياً»- تيمناً بالنمور الآسيوية التي تحولت قططاً منذ التسعينيات على وقع السياسات التنموية ذاتها- ومن زاوية النخب في واشنطن والاتحاد الأوربي، هو أن هذه الدول ليس لديها مواجهة مع «إسرائيل» لتتحجج هي بها في «شد الأحزمة»، وبالتالي فإن غياب هذه المواجهة لا يشكل سبباً وجيهاً لدى الحماة التقليديين للكيان في الغرب، للضغط على هذه الدول!!
والحال هكذا فإنه من البدهي أن يعاد طرح الأسئلة عن مشروعية ومستقبل الحلول الليبرالية ذاتها في الدول التي تعلن المواجهة، مثل سورية؟ ما الذي سيمد المواقف السياسية بأسباب الاستمرار، إذا كان المآل المنطقي لسياسات الإفقار المنهجي الليبرالية هو الانفجار واحتمالات نتائجه؟ ومن يضمن مسار الأحداث، وتداخل القوى والأصابع مع استفحال تردي الأوضاع المعيشية تحت وطأة عمليات الخصخصة المستمرة تحت مسمى «التشاركية» والتي أصبحت الكهرباء آخر ضحاياها، وستلحقها المياه، وما بينهما الطرقات، وقبلهما التعليم والصحة.. الخ؟
إن الأحداث تثبت صحة موقف الشيوعيين السوريين: لافصل بين السياسي- الوطني والاقتصادي- الاجتماعي والديمقراطي، إنها سلة متكاملة تخدم عناصرها بعضها بعضاً. ولافصل بين الداخلي والخارجي لأن مواجهة الخارج تمر جدلياً عبر بوابة مواجهة مرتكزاته من أي شكل ونوع في الداخل، وإن أول البنود على جدول المواجهة هو اعتماد النموذج الاقتصادي المطلوب، القائم على تحقيق أعلى نسب نمو وأعلى مستوى عدالة، تخديماً لمصالح السواد الأعظم من السوريين الفقراء، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن.