افتتاحية قاسيون 571: معركة الحوار
يشير مؤتمرا المعارضة الداخلية اللذان عقدا خلال الأسبوع الفائت في دمشق إلى نضوج طرف معارض محاور، وإن تأكيد كل من المؤتمرين على ضرورة وقف العنف من كل الأطراف والذهاب السريع باتجاه التهدئة والحل السياسي يعبر في جوهره عن مسؤولية وطنية تجاه ما يتهدد سورية من احتمالات خطرة، ويشير من جهة أخرى إلى أن الظرف الموضوعي والمزاج الشعبي العام قد نضجا تماماً للذهاب نحو الحوار والحل السياسي، كما يرسل الظرف السياسي الجديد رسالة لكل الجهات والأطراف مفادها: لم تبق أية حجة لأي طرف من الأطراف في تأخير فتح طاولة الحوار الوطني الجدي والشامل
وإن كانت الأطراف المتشددة أرجأت الحوار نحو المستقبل طوال الفترة الماضية أملاً في تحسين الموقع التفاوضي لكل منها، هذا إن كانت تؤمن حقاً بالحوار، فإن المستقبل ذاته أصبح اليوم مهدداً، فوضع سورية على المستويات الأمنية والاقتصادية ووضع نسيجها الاجتماعي أصبحت جميعها خارج نطاق التحكم الفعلي بنسب تزداد يوماً بعد آخر ونقطة دم إثر أخرى، وذلك مهما كانت التطمينات التي يقدمها الطرفان المتشددان سواء من جهة النظام أو المعارضة، والحقيقة أمر لا يقبل التأويل، وأفضل طريقة للتعاطي معها هي أخذها كاملة كما هي..
لا يعني الذهاب إلى الحوار التخلي عن التغيير المطلوب، ولكنه يعني نقل المعركة إلى شكلها الأرقى، إلى معركة الأفكار. ويعني من جهة أخرى نقل المعركة إلى ميدانها الحقيقي، إلى جوهرها الاقتصادي والاجتماعي والديمقراطي، وفتح النقاش العلني الواسع أمام الشعب السوري ليقرر ما يريد. وإن كان العنف حجة في تأجيل الحوار، فإن الواقع والحياة قد أثبتا بما لا يقبل الجدل أن أوهام «الحسم» و«الإسقاط» والإصرار عليها هو الطريق الأقصر لتدمير سورية وتحقيق مشاريع أعداء الشعب السوري، سواء أدرك أصحاب هذه الأوهام هذه الحقيقة أم لم يدركوها بعد، فتاريخ البشرية بأكمله يثبت أن العنف كأداة سياسية هي أضعف الأدوات وأكثرها خطورة في الوقت نفسه، وأماكنها الفاعلة ضمن العملية التاريخية محدودة جداً ولا تطابق الظرف السوري بأية حال..
إن أمام السوريين معركة كبرى للوصول إلى الحوار ومن ثم الاستمرار فيه، خاضوا حتى الآن جزءاً من جولاتها وبقيت أمامهم جولات كثيرة.. فالفساد الكبير داخل النظام بوصفه بوابة العبور الأساسية للخارج سيسعى جهده لتشغيل البروباغاندا «الحربجية» ضد الحوار بأشكال مباشرة وغير مباشرة، وسيشغل أيضاً ميليشياته على الأرض لتستمر بالقتل وبإعاقة المصالحة الوطنية ما أمكنها. بالمقابل، والأصح أن نقول على التوازي، فإن الصهيونية العالمية ستشغل إعلامها «العربي» والغربي لتحاول إسقاط أية بادرة أمل، وستشّغل الجزء الذي تتحكم به من المسلحين ليستمروا بفظائعهم..
إن من لديه الجرأة لإعلان حرب ضروس ضد الإرهاب -وهي جرأة مطلوبة- مطالب اليوم باسم الشعب السوري أن يمتلك الجرأة الأصعب والأخطر المتمثلة بإعلان الحرب على مصادر ومنابع الإرهاب وليس على أدواته فقط، إن مصادر الإرهاب في الداخل هي أولاً -وقبل غيرها- قوى الفساد الكبير داخل النظام المتحالفة مع الفساد في المجتمع والتابعة في المحصلة إلى الأعداء الخارجيين بحكم انتمائها إلى الربح والجشع، القوى التي لم تحاسب جدياً حتى اليوم وهي العابثة بأمن سورية الاقتصادي والأمني بالجريمة الموصوفة..
إن للجرأة الوطنية مستوىً آخر أعلى وأصعب، وهو مكاشفة الناس، مكاشفة الشعب السوري بحقيقة ما يجري وبحقيقة ما يريد كل طرف سياسي. إن تذكرة العبور إلى سورية الجديدة سيمنحها الشعب السوري ولا أحد غيره، فالسوريون اليوم متيقظون تماماً ويراقبون الجميع، والمعركة السياسية القادمة ستكون حامية الوطيس ووطنية بامتياز، لذا فلتُراجع كل الأطراف السياسية بما فيها النظام ما لديها من رؤى وبرامج لتقدمها للشعب السوري، ولتّتلفت حولها لترى كم من السوريين يقفون معها ويوافقونها ما تقول وما تفعل، فالمكاشفة قادمة والشعب سيحكم ويقرر ولو كره الكارهون