ما هو معيار نجاح «جنيف-2»؟
تتضارب آراء الأطراف المختلفة الدولية والإقليمية والداخلية السورية حول «جنيف-2»، الذي من المفترض عقد جلسته الافتتاحية هذا الأربعاء، كلٌ حسب غاياته. غير أنّ جانباً موضوعياً يتجاوز رغبات الأطراف جميعها هو ما يحدد درجة نجاح أو فشل المؤتمر..
لا بد من التذكير بداية بأنّ «جنيف-2» وبقدر ما هو حدثٌ سوريٌ فإنه وفي الوقت ذاته حدث دولي وإقليمي يأتي ضمن سياق الترجمة السياسية للتوازن الدولي الجديد، أي أنّ نقطة الانطلاق في التعامل مع المؤتمر يجب أن تستند إلى فهم واضح للتوازن الدولي الجديد ومعانيه.. وبكلامٍ آخر، فإنّ مجرد انعقاد المؤتمر هو خطوةٌ إلى الأمام ضمن عملية التراجع التاريخي للعدو الأمريكي وحلفائه الإقليميين وفي مقدمتهم «إسرائيل»، ذلك أن منطق التسويات السياسية يتعارض في جوهره مع استمرارية دور «الشرطي العالمي الأمريكي»، ويتعارض أيضاً -وهذا الأهم- مع «الحرب الشاملة» التي شكلت المخرج التاريخي الوحيد من الأزمات الرأسمالية المتعاقبة..
بالمحصلة فإنّ جنيف السوري وجنيف الإيراني و«الجنيفات» الأخرى القادمة المصرية والعراقية.. والخ، هي عودةٌ أمريكية- روسية إلى مستوى الصراع الدولي الأساسي بين المنظومتين الرأسماليتين بعد هروب المنظومة الأمريكية من الإقرار بالتوازن الجديد عبر محاولات ممانعته على المستويات المحلية والإقليمية، واستعصاء تلك المحاولات وفشلها جزئياً أو كلياً في بقاعٍ مختلفة من العالم..
أرضية الصراع الدولي
اتخذ الصراع الدولي من ظاهرة «الربيع» أرضية أساسية له، ولكن ذلك يجب ألّا يشتت الانتباه ولو للحظة واحدة عن جذر هذه الظاهرة المتجسد بالأزمة الرأسمالية العالمية وأزمة نماذجها الليبرالية التابعة وتداعيات تلك الأزمة على شعوب العالم عامةً وشعوب «العالم الثالث» خاصة.. ما يعني أن استحقاقات التغيير الداخلي في جميع الدول الرأسمالية ومن ضمنها روسيا وأمريكا هي استحقاقات ناضجة وإن بدرجات متفاوتة.
يظهر هذا الاستحقاق بوضوحٍ أكبر في دول الأطراف، فها هنا لا تستخدم الديكتاتورية الرأسمالية أية مساحيق تجميلية، بل تظهر فجةً عارية بمنظومات هيمنتها المتخلفة المعتمدة على القمع البوليسي دون وسائل القمع والهيمنة «الحضارية» المستخدمة في الغرب من «ديمقراطية» وإعلام ومنظمات مجتمع مدني وما إلى هنالك من وسائل تضاهي القمع البوليسي قوةً بأضعاف مضاعفة.. إضافةً إلى تعمق درجات النهب وتصاعدها في هذه الدول خلال العقد الأخير تحت ترغيب وترهيب المركز الإمبريالي الأمريكي المأزوم. وواقع الحال أن تضافر الأزمات المعيشية مع تخلف المنظومة السياسية أديا إلى تسهيل انتقال التناقضات الداخلية في دول الأطراف إلى ساحة الفعل التاريخي، وخاصة في ظرف انعدام الوزن الدولي المحصل الذي تزامن مع ظاهرة «الربيع»..
الخصوصية السورية
لا تخرج سورية عن التوصيف العام السابق لدول الأطراف، فاستحقاقات التغيير الداخلي ناضجة منذ سنوات عدة، والبنية السياسية القائمة متخلفة هي الأخرى سنواتٍ عديدة عن متطلبات الواقع، كما ساهم دخول الليبرالية الاقتصادية بمسمى «اقتصاد السوق الاجتماعي» خلال العقد الماضي، إسهاماً أساسياً بإلحاق سورية بالركب الرأسمالي المتراجع والمتأزم، الأمر الذي أنتج الحراك الشعبي الواسع في مطالع 2011..
وإن كان دخول «الخارج» على خط الأحداث منذ اللحظات الأولى أمراً مفهوماً وواضحاً لكل من قرأ التاريخ ولو لماماً –التدخل البروسي والروسي والإنكليزي والإسباني في الثورة الفرنسية 1789، وتدخل بيسمارك بطلب حكومة ريفيير الفرنسية لإنهاء كومونة باريس 1871، وتدخل عشرة دولٍ أوروبية لإنهاء ثورة أكتوبر 1918 حتى 1921.. والخ- فإنّ قدرة الخارج على التأثير تتعلق بعاملين أساسيين: الأول هو وزن تلك الدولة الاقتصادي والعسكري والسياسي مقارنة بأوزان المتدخلين، والثاني هو كمية وسعة الثغرات والاختراقات الداخلية التي يستطيع الخارج النفوذ منها.
أما عن العامل الأول، فلا مكان للمقارنة إذا ما جرت بين سورية والولايات المتحدة الأمريكية، ولكن المقارنة جائزة بين سورية وبين الولايات المتحدة بعد أن يطرح من قوتها ممانعة «البريكس» وفيتو روسيا والصين. بهذه الممانعة مضافاً إليها قوة سورية الذاتية تم تجاوز احتمال التدخل العسكري المباشر على الطراز الليبي، وتمت إعادة الكرة إلى الداخل السوري بعد تجاذبات عديدة.. ولكن العامل الثاني بقي متاحاً ومؤثراً بشدة، فممرات عبور الخارج المتمثلة أساساً بقوى الفساد الكبير التي دللتها الدولة ورعتها خلال العقدين الماضيين مررت التدخل غير المباشر وأمنت توسيعه هروباً من استحقاقات التغيير المطلوبة، ساعدها في ذلك القصور المعرفي المزمن والتخلف السياسي الكبير في بنية النظام السياسي القائم، والذي ما يزال يحلم بأجزاءٍ منه حتى اللحظة بإمكانية العودة إلى الوراء، الأمر الذي أدى بتفاقمه واستعصاء حله داخلياً إلى إعادة الكرة مرة أخرى إلى الخارج الإقليمي والدولي، الذي بات أمام بلد تمضي قدماً باتجاه الدمار مهددة محيطها والعالم، ومهددة النموذج التسووي الذي يفرضه الميزان الدولي الجديد، لذا غدا «من الضروري» تدخل هذا الخارج عبر مؤتمر دولي حول سورية لإعادة مركز ثقل القضية السورية إلى الداخل السوري، ولكن هذه المرة مع فرض الحل السياسي طريقاً إجبارياً للخروج من الأزمة على جميع الأطراف..
وظيفة «جنيف-2»
بهذا المعنى فإن للمؤتمر المزمع عقده مهمةً أساسية هي إعادة مركز ثقل المسألة السورية إلى الداخل السوري، وضمان عدم تدويلها اللاحق، الأمر الذي يمكن ترجمته بمهمات ثلاث هي: «إيقاف التدخل الخارجي بكل أشكاله، وقف العنف، وإطلاق العملية السياسية الداخلية» وبقدر ما يستطيع المؤتمر تحقيق هذه المهمات بقدر ما يكون ناجحاً. ويجب الوقوف هنا عند مسألة إعادة مركز الثقل إلى الداخل لتوضيح أهميته انطلاقاً من مجريات الداخل السوري..
إنّ بقاء مركز الثقل في الخارج السوري يعني استمرار تدخل السعودية وقطر وتركيا وإيران والعالم أجمع في الشأن السوري، ويعني في أقل التوقعات سوءاً تحويل سورية إلى المكان الذي يحسم فيه الصراع الدولي بين القطبين «الغربي» من جهة و«البريكس» من جهة أخرى، الصراع الذي لن يحسم إلا في آجالٍ متوسطة إلى بعيدة المدى، أي بين 5-15 عاماً!! بما تعنيه هذه المدة من إجهاز نهائي على أي أمل ببقاء سورية على الخارطة.. من وجهة النظر هذه يصبح واضحاً أن من ينادي بحل الأزمة عبر «اسقاط النظام» عليه في ظروف التدويل أن يسقط «البريكس» ليصل إلى هدفه، وبالمقابل فإن من ينادي بحلها عبر «الحسم العسكري» وفي ذات ظروف التدويل، عليه أن يسقط واشنطن وحلفاءها ليتمكن من الحسم..
إن تدويل الأزمة السورية، جعل نتائج الصراع الميداني هي الأخرى مدولةً، فمهمة الحسم الموضوعة أمام الجيش العربي السوري ضمن الظرف الحالي لا تعني الحسم تجاه مجموعةٍ هنا أو مجموعةٍ هناك، ولكنها تعني الحسم ضد واشنطن! فإن كانت لسورية هذه القدرة فلا بأس تلك أكثر مهمات العصر ثوريةً..!
أمام واقع القوى الحقيقية للأطراف المختلفة، فإنّ المهمة الوطنية الأولى تتمثل في إعادة مركز الثقل نحو الداخل السوري والمحافظة عليه في الداخل، الأمر الذي يتطلب وقف التدخل الخارجي بكل أشكاله، ووقف العنف، والدخول في عمليةٍ سياسية تسمح بإنجاز التغييرات المستحقة، وبكلمة إنجاح جنيف.. بما يسمح بقطع الإمدادات عن القوى التكفيرية والإرهابية وبعزلها وإنهائها عبر تحالفٍ وطني واسع بين السوريين «موالين» و«معارضين» مسلحين وغير مسلحين في مواجهتها.. والانطلاق نحو إعادة الإعمار وإنجاز الاستحقاقات الوطنية الكبرى من محاربة للفساد الكبير وتغيير جذري وعميق للنظام السياسي القائم في المناحي الاقتصادية- الاجتماعية والسياسية والديمقراطية..