عالم جديد يتكون الآن.. تعقيدات الولادة!
إذا كان من الثابت أن أحادية العقدين الأخيرين الأمريكية قد بدأت بالانحسار فعلياً لمصلحة ثنائية (البريكس مقابل الحلف الغربي)، فإنّه ليس بالأمر الرصين علمياً الوقوف في استقراء المستقبل عند حدود هذه الثنائية..
إنّ للتراجع الأمريكي سبباً عميقاً لن يدفن الأحادية الأمريكية فحسب، إنما سيمتد أبعد من ذلك ليؤثر في تكوين العالم الجديد وفي بنيته. يجب بداية التخلص من ضيق الأفق القومي في دراسة المسألة، وهو أمرٌ لا تفرضه أيديولوجية الدارس بقدر ما تفرضه الحياة نفسها، فأزمة أمريكا في عمقها أزمةٌ فوق- قومية، هي أزمة بنيوية لنظامٍ عالمي كامل، أزمة نمو لأنها أزمة انتاج، ولأنها بالضبط أزمة إعادة انتاج موسع، إعادة الانتاج الذي يكسر دورته تراجع الاستهلاك، الذي يفرضه بدوره نمط توزيع الثروة العالمي المحكوم بدرجات تمركز وزيادة تمركز فلكية..
التراجع الأمريكي الجاري على قدم وساق ليس تراجعاً «للدولة الأمريكية» أو«للقومية الأمريكية» فحسب، إنما هو تكثيف عالٍ لتراجع المنظومة العالمية الرأسمالية ابتداءً من مركزها الأساسي هذه المرة.. ما يعني أن افتراض استقطابٍ عالمي جديد مبني على أساس «دولٍ قومية» و«أحلاف قومية» متناقضة، هو افتراض غير علمي من أساسه، وبالترجمة الواضحة فإن الاستقطاب القائم حالياً بين معسكر «بريكس» والمعسكر الغربي لن يطول به الأمد حتى يأخذ أشكالاً أخرى أكثر مناسبةً لطبيعة المشكلة ولطبيعة الأزمة. وظيفة الاستقطاب الحالي لا تتعدى كونه قابلة استقطاب حقيقي آخر، يفعل فعله في الواقع وفي كواليس السياسة الدولية طوال الوقت بشكل حثيث ومتصاعد، وسرعان ما سيقفز إلى الواجهة..
سورية والمنطقة.. حالة دراسة
ولنترك جانباً معالجة المسألة من جانبها النظري العام الذي يستحق وقوفاً طويلاً عنده، ولندخل في بعض جوانب الوضع الملموس في منطقتنا بارتباطه بالاستقطاب الثنائي آنف الذكر..
إنّ متابعة النشاط الروسي في المنطقة يوحي بطريقة عملٍ محددة هدفها ابعاد الأمريكي تدريجياً، وأداتها الأساسية إعادة التوازن بين الدول الإقليمية بما يغلق الباب وراء الأمريكي بعد طرده، وفي السياق نرى دعم روسيا المعلن لعودة دورٍ إقليمي حقيقي لمصر، يترافق مع تفاهمات متلاحقة مع تركيا اقتصادية وسياسية، وتعاونٍ مع الإيراني في قضيته النووية، وسعي وراء السماح لسورية بالخروج من أزمتها لتستعيد دورها المحلي بالحد الأدنى..
إنّ إعادة توزيع النفوذ الإقليمي في المنطقة برعاية القوة الدولية الروسية لا تجري دون صعوبات كبرى وانزياحاتٍ كبرى، فبالنظر إلى المصالح القومية لبعض الدول الإقليمية في المنطقة، لن يكون من الصعب تمييز الخلاف الاستراتيجي بينها وبين الروسي رغم تحالفها الحالي معه، ما سيدفع هذه القوى لمحاولة تكوين نماذجها وتحالفاتها الخاصة التي لن يستقيم تركيبها على أساس منظومات التحالف الحالية المرتبطة بالصراع الوطني دون الاقتصادي مع الأمريكي، كما لن يستقيم تشكيلها مع البنية الحالية لهذه القوى، وتحديداً في جانبها الاقتصادي- الاجتماعي.. أي أنّ البحث عن أي استقلالية أو نفوذ سياسي للقوى الإقليمية في عالم الغد، يفترض القطع نهائياً مع العقلية الرأسمالية في إدارة الاقتصاد لسببين رئيسيين:
• استكمال إخراج الأمريكي - بما يعنيه من تكثيف لمنظومة معطوبة - من المنطقة، يفترض القطع مع كامل منظومته..
• استيعاب غليان الناس وطاقتها الهائلة وحاجتها الماسة لحياةٍ جديدة، يفترض تدوير عجلة الإنتاج بطاقة قصوى لا يمكن بلوغها بغير إعادة توزيع الثروة بشكل جدي لمصلحة الأغلبية المنتجة، ما يتناقض أيضاً مع عقلية الرأسمالية.
على ضفة أخرى، فإن درجة التأزم والتدمير في مجمل بلدان المنطقة، تتطلب موضوعياً بدائل سياسية جذرية، وعلى يمين القوى الجذرية لا توجد إلا البدائل الأمريكية – أي المنتمية إلى منظومة الأمريكي الاقتصادية – والتي ينبغي عزلها وإبعادها. وتظهر مسألة «التقدم الاجتماعي» اليوم بوصفها ضرورة لا بديل عنها لشعوب منطقتنا، ذلك التقدم الذي لا مجال للسير فيه دون القطع النهائي مع الأمريكي، الأمر الذي يتوافق في جوهره مع المصلحة العميقة لشعوب دول البريكس وروسيا ضمناً في الخروج من المنظومة الرأسمالية..
اقتباس من مشروع برنامج «الإرادة الشعبية»
«وفي بيت الرأسمالية الداخلي، عمقت الأزمة الرأسمالية العظمى الانقسام ضمن المعسكر الرأسمالي نفسه بين المركز الإمبريالي الأمريكي- الأوروبي من جهة، والقوى الرأسمالية الصاعدة «البريكس» من جهة أخرى، وصولاً إلى توازن دولي جديد انتهت فيه أحادية القطبية الأمريكية، دون أن يعني ذلك أن الاستقطاب الجديد سيكون شبيهاً بذاك الذي ساد خلال مرحلة الحرب الباردة، ولكنه استقطاب ثنائي مؤقت لن يطول العهد به حتى ينزاح باتجاه الثنائية الحقيقية على المستوى العالمي بين قطب الشعوب من جهة والنظام الرأسمالي ككل من جهة أخرى، ذلك أن شعوب دول «البريكس» (مثالاً) وفي إطار نضالها الوطني للدفاع عن وحدة أراضيها ومصالحها الوطنية في وجه الإمبريالية المحكومة بتوسيع رقعة الحرب والاستغلال، إنما تندار بالتدريج ضد الرأسمالية نفسها كنظام اقتصادي- اجتماعي، الأمر الذي ينسجم مع مصلحة شعوب العالم الثالث التي يندمج نضالها الوطني ضد الغرب الإمبريالي وضد الصهيونية أكثر فأكثر مع نضالها الاقتصادي- الاجتماعي، ويدفع هذا الانسجام العميق في المصالح إلى تبلور قطب الشعوب في وجه القطب الرأسمالي، وذلك بغض النظر عن اللبوسات السياسية والدولية المختلفة التي ستكون شكلاً لهذه الثنائية الحقيقية، ثنائية (شعوب- رأسمالية)..»