الفاشية.. والفاشية الجديدة!
حققت الحركات التكفيرية مؤخراً حضوراً لافتاً في التأثير على مجريات الأزمة السورية، وباتت ظاهرة تستحق الدراسة المعمّقة بعيداً عن ردود الأفعال السطحية، التي تتجلى من خلال مناقشة المشكلة من بوابة العلمانية العتيدة، أو تقزيم المشكلة على أنها مجرد فضيحة (جهاد نكاح) أو ما شابه من المواجهات الشكلية التي تساهم في التعمية على ما هية الحركات التكفيرية، وهويتها والدور المنوط بها، في الصراع الدائر في عالم اليوم.
كان العنف وما زال السمة الملازمة لقوى الاستغلال، ، فكان حاضراً على الدوام كحارس لمصالح «صاحب الجلالة» الرأسمال، منذ أن انقسم المجتمع البشري طبقياً بغضّ النظر عن مستواه وشكله، وأدواته، ومكانه، .. ومع سيادة النمط الربوي – الرأسمال المالي – في النظام الرأسمالي أنتج هذا النظام الفاشية – والنازية كأيديولوجيا أكثر رجعية تعبر عن مصالح الطغمة المالية العالمية التي لم يبق لها سوى خيار شمشون، خيار حرب عاتية ومجنونة في محاولة لحماية مصالحها الضيقة، باعتبار«الحرب هي الرئة الحديدية التي تتنفس منها» لتدمر بذلك القوى المنتجة، وتشوّه العالم الروحي للمجتمع البشري، وتعمم الخراب في بقاع واسعة من العالم، وتصطدم من جراء ذلك ليس مع شعوبها وشعوب العالم العالم فحسب بل مع القوى العاقلة ضمن منظومة الرأسمال نفسها، ومن الجدير بالذكر أن الفاشية جاءت على خلفية أزمة اقتصادية شاملة في هذه المنظومة، وعليه فإن هذه الهمجية الرأسمالية الصارخة التي تجلت من خلال الفاشية هي انعكاس لطبيعة بنيتها الداخلية التي تنتج الأزمات باستمرار.
أزمة جديدة..وفاشية من نمط جديد!
ازدادت في العقود الأخيرة هيمنة الرأسمال المالي، حتى أصبح القطاع الأكثر ريعية في بنية الاقتصاد الرأسمالي الذي امتد جبروته افقياً وعمودياً إلى كل جهات الأرض، ليمارس أبشع أشكال الاستغلال بحق البشر والطبيعة، حتى وصلت أرباحه إلى حدود خيالية ـ ومع تفجر أزمته الراهنة، أصبح كعادته مستعداً (لارتكاب المزيد من الحماقات) ليحافظ على مواقعه، بما فيها العودة إلى ترسانته الأيديولوجية الفاشية وتصديرها إلى أنحاء العالم حسب الظرف الملموس في كل منطقة من العالم، وحسب مكوّنات الوعي الجمعي التاريخي هنا وهناك، ليقطع بذلك كل صلة له حتى مع قيم التنوير التي أنتجتها البرجوازية نفسها.
الإخوان المسلمون
منذ انهيار الاتحاد السوفيتي يتم تسويق الإخوان المسلمين كتيار ليبرالي، وبالفعل قامت الجماعة في محطات عديدة، بمحاكاة الشعارات الليبرالية وراحت تروّج مثل غيرها من القوى لاقتصاد السوق الليبرالي، والشعارات الليبرالية السياسية الممجوجة كاحترام الآخر، وحرية الرأي، وما إلى ذلك، وإذا كان بعض السذّج قد ساهم في تسويق الجماعة بهذا الغلاف جهلاً بطبيعتها، ووجد في ذلك تحوّلاً عند الجماعة ينبغي تلقفهُ، فإن أكثر من عمل على الترويج لذلك هو إعلام البترودولار، والإعلام الغربي نفسه، دون أن يبحث أحد في سبب هذا ( التحول) عند الجماعة، ألا وهو أن القوى المتحكمة بالتنظيم العالمي للجماعة هي جزء من قوى الرأسمال المالي العالمي، وهي الوكيل الحصري لمركزها العالمي في البلدان التي تمتلك فيها الايديولوجيا الدينية مساحة واسعة من الحضور في الوعي الشعبي، وأن هذه القوى تعمل على فرض اللبرلة في اقتصادات دول رأسمالية الأطراف، مغلفة بحريات سياسية وفق نمط ديمقراطية مكونات ما قبل الدولة الوطنية.. أليست البنوك هي هوية الرأسمال المالي عالمياً؟ وألم تكن شبكة البنوك الإسلامية أحد أهم أدوات الجماعة في الهيمنة، وبماذا يمكن أن يُفسَر وجود أسهم باسم قيادات التنظيم في قطاع الخدمات في أهم الشركات الغربية، وما سرّ هذا الزواج الكاثولوليكي بين إحدى أهم المراكز المالية الإقليمية (قطر) وبين الجماعة، وعوضاً عن ذلك ألم تعتمد الجماعة حتى أسلوب النخب الغربية في كسب قطاعات شعبية من خلال الاستخدام المباشر للمال السياسي في العمليات الانتخابية، وأخيراً، أليست البنية التنظيمية (الطائفية) للجماعة هي الشكل السياسي المتوافق مع التفتيت السياسي والجغرافي لبلدان المنطقة والعالم التي باتت تعمل عليه قوى الرأسمال المالي العالمي، بشكل معلن، تحت ستار إشاعة الديمقراطية؟.. ولمن يتأفف من الحديث عن التآمر الغربي، نحن هنا لا نتحدث عن مؤامرة تحاك في السر بل عن مشروع واضح ومعلن، وإن كان بأدوات متعددة تتغير حسب توازن القوى وضرورات الهيمنة.
الأب الروحي لحركات التكفير
تعتبر جماعة الإخوان المسلمين الأب الروحي لجميع الحركات التي تبنت الايديولوجيا الدينية في أكثر أشكالها رجعية، فمنها تناسلت كل قوى التأسلم التي اعتمدت التكفير منهجاً لها في التعاطي مع الآخر، فكرياً وطائفياً ودينياً، فالجماعة هي أول تنظيم ديني طائفي بغضّ النظر عن الشكل الذي تتمظهر به هنا وهناك، في هذه المرحلة أو تلك، وعليه فإن فرق الأعمال القذرة الموظفة لتهيئة التربة الخصبة لمشروع قوى الرأسمال المالي في التفتيت والاستفراد بالهيمنة، والتي تّعرف باسماء مختلفة في سورية ولبنان والعراق ومصر وعموم بلدان الشرق،و تكاثرت كالفطر على هذه المزبلة، وبتسميات عديدة ترتبط بحبل السرة أيديولوجياً مع الجماعة، وأقل المعلن الذي يؤكد ذلك هو جهات التمويل نفسها...
شركات أمنية ترتدي العمامة
طريقة عمل هذه الجماعات أقرب إلى طريقة عمل الشركات الأمنية، التي راجت عالمياً منذ ما يقارب العقد من الزمن، والتي استخدمتها الشركات الكبرى لتكون «دولة داخل دولة» حيث تطلبت مصالحها، ولتكون أداة الفوضى الخلاقة، فالرواتب المغرية، والتدريب الدقيق، والحرفية في تنفيذ المهام، واستخدام آخر منجزات الثورة العلمية التكنولوجية، والتراتبية الوظيفية، وقدرتها على اختراق بنى المؤسسات الرسمية، باتت وقائع ملموسة، تفنّد كل الترهات التي تقول بأن بضعة رجال يعيشون خارج التاريخ في جبال تورا بورا استطاعوا إرباك العالم شرقاً وغرباً كما يروّج الإعلام البرجوازي العالمي.
صقور... وحمائم!
في ظل كل فوضى تثيرها هذه الجماعات، تظهر جماعة الإخوان المسلمين كتيار معتدل (منقذ) من الإرهاب والتطرف، تيار يؤمن بصناديق الانتخابات كأداة للوصول إلى السلطة، وبالتالي فهو تيار ليبرالي، وعليه فإن الباب مفتوح للدخول في تحالفات معهُ حتى ولو كانت الجهة المتحالفة تدعي العلمانية او حتى الماركسية فالليبرالية ساحرة وقادرة حتى على جمع الماء والنار معاً، هكذا تتم عملية الترويج للجماعة، فهي ليبرالية أولاً، وهي بديل التطرف والتكفير فإما هذه أو تلك، مع العلم أن الفكر واحد، ومصدر التمويل واحد، والنتيجة في نشاط هذه وتلك واحدة وهي التفتيت الديني والطائفي والمذهبي، وكلها تصب في خدمة تحقيق مشروع قوى الرأسمال المالي العالمي.
الدين والفكر الديني
في سياق محاولة جعلها بضاعة قابلة للتسويق، تقدم الجماعات الدينية نفسها إلى الراي العام، على أنها تمثل الدين، وبالتالي فإن الاختلاف معها هو خلاف مع وكلاء الله على الأرض، باعتبارهم الفرقة الناجية، ودماءهم نقية، والآخرون - كل الآخرين - في ضلال مبين، وذلك في استثمار لا أخلاقي لحاجة شعوب العالم الإسلامي إلى الخروج مما هي فيه من بؤس وحرمان وقهر، فيتم توظيف واستهلاك الكمون الثوري لدى هذه الشعوب في اتجاه غير الاتجاه المطلوب، ألا وهو ضرورة بناء نظم سياسية تمنع استغلال الإنسان للإنسان وتحقق العدالة الاجتماعية على الأرض.
إن الدين كعلاقة معتقدية بين الإله والعباد حق مشروع للبشر، ينبغي أن يكون مصوناً، ولكن الفكر الديني الذي تمثله قوى الرجعية الدينية هذه هو في أحسن الأحوال اجتهادات بشر قد يصيبون أو يخطئون، ناهيك عن كونهم يعملون بموجب أوامر ريموند كونترول الرأسمال المالي.
استناداً إلى كل ما سبق يمكن فهم مواقف دول العالم المختلفة من الفاشية الجديدة، بما فيها تلك القوى البرجوازية العاقلة في الدول الرأسمالية، التي تنقسم صفوفها في الموقف من هذه الحركات المتأسلمة، فالفاشية واستناداً إلى التجربة التاريخية للرأسمالية نفسها هي عملية انتحار للمنظومة نفسها إذا لم تقم بعمل إسعافي، حتى وإن كانت تمارس أعمالها الفاشية القذرة على أراضي الغير، وبأيدي الغير، فالهزات الارتدادية لهذا الزلزال الفاشي الجديد ستصيب المراكز نفسها.