هيئة التنسيق: «الجنبلاطية» على الطريقة السوريّة
منذ بداية الأزمة السورية وحتى اللحظة، كانت «هيئة التنسيق الوطنيّة» تبدّل مواقفها على نحو دراماتيكي، بما يتناسب مع اللحظة اليومية، وليس التاريخيّة. المنهج لدى الهيئة: البراغماتية، الهدف: الاقتراب من السلطة المقبلة كلما سنحت الفرصة، أما الأدوات فمن خلال تمثّل عقلية «الحزب القائد» ومحاولة توزيع الصفات والأدوار في «جنيف2» وقبله
لدى المرور على مواقف «هيئة التنسيق الوطنية»، على طول عمر الأزمة السورية، تتأكد الحقيقة التي تقول أن السياسة في خطاب وسلوك الهيئة ما هي إلا فن استثمار اللحظة السياسيّة إلى أقصى درجة ممكنة، بما يخدّم هدف محدّد وهو: حجز مكان في السلطة المقبلة، التي هي المكان الذي يصنع فيه التاريخ والتغيير، بحسب العقلية المذكورة، حتى ولو اقتضى الأمر تبديل المواقف المبدئية مع كل مستجد ينشأ على الساحة. ودون ذلك الهدف، أطلقت الهيئة مواقف ازدواجيّة عديدة، باتت معروفة، ومثاراً لسخرية المجتمع والقوى السياسية: كالجمع بين «رفض التدخل الخارجي» و«رفض الفيتو الروسي- الصيني» المكرّر ثلاث مرات، واعتبار «التدخّل العربي» ليس خارجياً، والجمع ما بين رفض العنف ودعم طرف مسلّح بعينه.. الخ. فقد كان المطلوب من خلال الجمع ما بين المتناقضات، في مواقف الهيئة تلك، هو محاولة جمع المجد من كل أطرافه، وكأن هذا الأمر كان لينطلي على القوى السياسيّة والناس التي دخلت بدورها إلى درجة من النشاط السياسي العالي..
ديماغوجية مصدرها قصور معرفي
مع اقتراب موعد انعقاد مؤتمر «جنيف2»، لا تزال عقليّة الهيئة تلك هي التي تملي عليها خطابها، إذ يطلق اليوم قياديو «هيئة التنسيق الوطنيّة»، عبر وسائل الإعلام، سلسلة من المزاعم تهدف إلى تثبيت الفكرة التي مفادها: «أن الهيئة هي أول من دعا إلى الحل السياسي»، وذلك في محاولة جديدة للعب دور «العرّاب» الذي لطالما وقف وراء الحل السياسي، ومفتاحه المتمثّل بـ«جنيف2». العراب الذي من المفترض أن يعود عليه ريع جهوده بأن يحدد الأدوار ويوزعها على المشاركين في المؤتمر المزمع عقده في بداية العام المقبل.
هذا النوع من المزاعم الجاهزة، التي تنسب للهيئة كل انتصار هو ملك الشعب السوري، كان يأتي في السابق على لسان رئيسها في الداخل، حسن عبد العظيم، الذي هو عادة أكثر قيادييها إفصاحاً عن عقليّة الهيئة، لكنه اليوم أصبح على ألسنة معظم قيادييها، ومنهم هيثم مناع، رئيس الهيئة في المهجر، الذي أطلق هذا الزعم في مقابلة له على قناة «الميادين»، متجاهلاً عن عمد أن هناك قوىً عديدة دعت إلى الحل السياسي قبل الهيئة: فعلى مستوى القوى السياسية، دعت «الجبهة الشعبية للتغير والتحرير» في التاسع من تمّوز 2011، وهو يوم انطلاقتها، إلى الحل السياسي. أما على مستوى الحركة الشعبية طالبت الكثير من لجان الحراك الشعبي السلمي، ولجان السلم الأهلي في سورية بالحل السياسي، وقدمت شهدائها دون ذلك المطلب، وذلك في الوقت الذي كانت فيه هيئة التنسيق تطلق شعاراتها الديماغوجية: «إسقاط نظام الاستبداد والفساد» و«بكل رموزه ومرتكزاته»، انطلاقاً من قراءتها القاصرة للتوازن الدولي، التي رأت أن عالم الأحادية القطبيّة الأمريكية قدرٌ لا فكاك منه، القراءة ذاتها التي جعلت السيد مناع يوقّع مع برهان غليون على اتفاق في القاهرة في 30 -12 2011جاء فيه: «تبدأ المرحلة الانتقالية بسقوط النظام القائم بكافة أركانه ورموزه»، و «رفض أي تدخل عسكري أجنبي يمس بسيادة واستقلال البلاد ولا يعتبر التدخل العربي أجنبياً». إلا أن هذه المواقف تتغيّر بسهولة، عندما يصطدم السيد مناع بوضع دولي جديد تنحسر فيه الأحادية القطبية بالتدريج..
لذا أصبح من المعيب على رموز الهيئة الاستمرار بسياسة التنطع لكل استحقاق بالمزيد من الادعاءات الباطلة والتظاهر بالحكمة، وكأن أحداً لا يقرأ التاريخ، ولم يرصد مواقف الهيئة الملتبسة على طول الخط. ولكن من اتخذ من النشاط «الدعائي» والإعلامي المبتذل رافعةً للنضال السياسي يغريه حدثاً كبيراً على مستوى مؤتمر «جنيف2» إلى اختلاق المزيد من الادّعاءات التي تقربه من حجز أي موقع.
معارض «لا حكومي»
يوغل السيد مناع في افتراضه السابق، ويبدأ بتوزيع الأدوار والأوصاف، فيشترط في مقال له في جريدة «السفير» توفر ثلاث صفات في من ينبغي أن يحضر على طاولة جنيف، وهي: «الكاريزما والكفاءة والكرامة»، ثم يشرع بتطبيق نظرته هذه على القوى السياسية السورية، فعن وفد النظام يقول: «الحكمة تقتضي أن يكون في هذا الوفد كل المكونات السياسية المشاركة في حكومة الدكتور وائل الحلقي»، في إشارة إلى وجود قوة معارضة في الحكومة الائتلافية، هي «الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير»، ومن منطلق «الحكمة» ذاتها ينصح الدكتور قدري جميل في مقاله المذكور، وفي مقابلة أخرى له على قناة «سكاي نيوز»، بالقول: «طالبْ أن تكون في وفد الحكومة، لأن في هذا مصلحة الشعب السوري»، لأن مشاركته مع وفد المعارضة: «ستنعكس سلباً، عليك شخصياً، وعلى التيار الذي تمثله»، محذراً مما سمّاه «القفز من الحكومة إلى اللاحكومة..».
إنّ ذريعة «الحكومي» و«اللاحكومي»، لا تنهى السيد مناع عن الركض وراء ائتلاف الدوحة الذي يحوي عدداً كبيراً من الشخصيات «الحكومية والبرلمانية السابقة»! كما أن وجود أشخاصٍ وجماعات ضمن الائتلاف ترفع راية العنف والحسم العسكري على طريقتها لا يثير حفيظة «الحس السلمي والديمقراطي» لدى الرجل، كما لا يزعزع «مواقفه الوطنية المبدئية» السعي وراء دعاة التدخل الخارجي الذين ناصروا بوقاحة منقطعة النظير ضربة عسكرية أمريكية لسورية.. كل ذلك قابل للنقاش والحوار والتعاون، إلا «الجبهة الشعبية»..! وعليه فإن محاكمة مواقف الرجل انطلاقاً من «مبدئيته» هي محاكمة في غير مكانها.. وفي العمق فإن السعي البائس لإبعاد «قدري جميل» بما يمثله، ليست إلا محاولة لإزاحة برنامج الجبهة الشعبية عن طاولة جنيف، برنامج التغيير الجذري الشامل الذي يقطع الطريق على «تحاصص» جديد للسلطة ضمن النظام الاقتصادي الاجتماعي السياسي والديمقراطي نفسه..
وينزلق السيد مناع منزلقاً خطيراً عندما يتحدث عن «القفز»، فليس في مصلحته، ولا في مصلحة هيئة التنسيق، الإشارة إلى تبديل المواقف السريع، فهيئة التنسيق قفزت بمجملها، وعلى متنها السيد منّاع، من «إسقاط النظام» مع برهان غليون، إلى الحل السياسي، علماً أن هذا التوصيف لا ينطبق على حالة الدكتور قدري جميّل الذي عرّف بذاته هويته المعارضة قبل وخلال وجوده بالحكومة وبعد إقالته منها.
والطريف في نهاية الأمر أن يدعو السيد مناع جميع القوى السياسية إلى «التخّلص من عقليّة البعث»، قاصداً بذلك عقليّة «الحزب القائد»، وهذا أمر جيّد بحد ذاته، لكن المشكلة تكمن أن هذه الدعوة جاءت بعد كل محاولات توزيع الأدوار وإسداء «النصائح»، وكأنه يقول: «لا يوجد أكثر من حزب قائد واحد»، يبدو أنه هيئة التنسيق برأي السيد مناع!!
لا يمكن تفسير مواقف السيد مناع إلا بأنه يفترض أنه وهيئته يسعون لحجز موقع فوق القوى السياسيّة الأخرى، «حزب قائد» جديد، ولكن من نوع آخر: يستمدّ قوته من ضعفه أولاً، ومن المحصلة الصفرية لتوازن القوى السياسية ثانيّاً، بما يذكّر بالظاهرة «الجنبلاطية» في لبنان، حيث يسعى وليد جنبلاط هناك إلى لعب دور المرجح للكفة، بعد أن تصطف جميع القوى فيبدل مواقفه بتبديل الظرف، بطريقة مبتذلة، مثلما باتت هيئة التنسيق تفعل.