العمالة «علمياً»..
رافق الحدث السوري، بما تضمنه من تعقيد، الكثير من الانزياحات في الوعي الوطني والسياسي والفكري لبعض النخب السياسية السورية، وجاءت هذه الانزياحات لتعبر في واقع الأمر عن البنية النظرية الهشة والمنفعلة لدى هذه النخب، وعن موقعها الحقيقي الرجعي سياسياً وفكرياً، .
ولتعلن عن انتهاء دورها الوظيفي التي كانت تؤديه كنخب ورموز لفضاء سياسي قديم يموت اليوم بدوره
ولا ينسحب واقع النخب هذا على بعض رموز النظام فحسب، بل يشتمل أيضا على أجزاء واسعة من رموز المعارضة أيضاً، التي يتضاعف ذنبها لكونها ما زالت تلعب دور «ثقافة السلطة» ولكن في صفوف المعارضة، وهذا أشد وأخطر، لأنها في موقعها هذ تخفي الكثير من تشوهاتها وراء رعونة الخصم وأخطاؤه، وتجمل هذه التشوهات وتكسيها غلاف «الثوري» أو «الجديد الصاعد»..
لنأخذ نموذجا عن رموز المعارضة تلك، على سبيل المثال لا الحصر، المعارض السوري «حازم النهار». ففي صفحته على الفيسبوك يورد السيد حازم تساؤلاً طرحه معاذ الخطيب جاء فيه: «أعترف بجهلي: هل يمكن لأحد أن يدلني على علماني وطني وحيادي في المعارضة السورية؟» ثم يثني ساخراً على اعتراف الخطيب بجهله بكثيرمن التعالي «النظري»، بما يوحي بأن السيد حازم يستطيع ببساطة أن يفكك مثل هذه المفاهيم التي طرحت في متن السؤال ويعيد تركيبها، فيأتي الجواب: «هل تدري يا شيخ معاذ أنك تطرح ثلاثة مفاهيم هي في الحقيقة ثلاثة مترادفات بالمعنى السياسي؟...العلمانية والوطنية والحيادية ثلاثة مفاهيم تؤدي غرضاً سياسياً واحداً. فالعلمانية هي حيادية الدولة إزاء جميع الأديان والمذاهب والتيارات والعقائد، وأحد ركائزها الأساسية المواطنة المتساوية. أما الوطنية فهي صفة للدولة التي يشعر فيها جميع المواطنين أنها دولتهم، وهذا لا يكون إلا إن كانت المواطنة المتساوية أحد مبادئها الأساسية. أما الحيادية فهي تعني تغليب الصفة الوطنية على سائر الصفات والانتماءات الأخرى..».
من حيث الشكل، لا بد من الإشارة إلى أن التذاكي الذي يكسو لهجة السيد حازم النهار، ومثله الكثير من المتثاقفين المعارضين، إنما يهدف في الجوهر إلى تغطية وتبرير مواقفهم السياسية الانتهازية التي ارتبطت بسياسات اقليمية محددة، القطرية نموذجاً- حيث يقيم ويعمل حازم النهار- فمثل هذا الأسلوب يعبر أحد جوانب ثقافة السلطة، وهو القدرة المستمرة على «ارتكاب الجرائم» من خلال «العمل على تبريرها»..
من حيث المضمون يسعى السيد حازم النهار إلى الخلط ما بين ثلاثة مفاهيم وهي: العلمانية والوطنية والحيادية، من خلال معالجتها سكونياً، لا تاريخياً. وهو يقوم بهذا لهدف وحيد وهو محاولة وأد أحد تلك المفاهيم تحديداً، وإفراغه من محتواه، وهو مفهوم الوطنية، لكونها صفة لا يتمتع بها حازم النهار، حيث جعل منها «صفة للدولة التي..» وفقط، أما حول أنها صفة للأفراد والسياسيين والأحزاب...آلخ، فهذا آخر ما يهم السيد حازم النهار الذي يتفق مع معاذ الخطيب على ندرة وجود المعارضين الوطنيين، ولكن له أسبابه الخاصة في ذلك، فمعظم هؤلاء «هم أيديولوجيون وعقائديون، مثلك تماماً - الكلام موجه لمعاذ الخطيب- ومن تغلبه العقيدة والأيديولوجية من الصعب أن يدرك معنى «الوطن»، أو يدركه مشوهاً..» إذا المشكلة في الأيدولوجية، أما كيف يدرك السيد حازم مفهوم الوطن فهذا يفصح عنه بالقول: « أما إن كنت تقصد من استخدامك لكلمة «وطني» الصفة الأخلاقية المضادة لتعبير «العمالة»، فأعتقد أن السوريين كبروا على هذه التوصيفات الذاتية، ويفترض بك أن تكبر أيضا».
هذا القول الأخير، عندما يجعل من توصيف وطني توصيفاً «ذاتياً وأخلاقياً»، إنما يجعل من العمالة في المقابل شيئاً «علمياً»، وهذا ما يسعى إليه حازم النهر لتبرير انزياحه الذي لا تقف وراؤه أكثر من مصلحة شخصية..
أما حول مفهوم الوطني، الذي يعيش اتجاهه الكثير من المعارضين حالة من «الإنكار الفرويدي»، كشأن حازم النهار، فهو لم يكن يوماً جزءً من أديولوجية نظام سياسي أو حزب أو تيار بل هو موقف ملموس وتاريخي للشعب السوري، وله احداثياته السياسية المحددة، التي تتمثل في المرحلة الحالية برفض العنف والتدخل الخارجي بكل اشكاله.
أما الذاتية الحقة فتكمن بالافتراض بأن السوريين قد خرجوا عن وطنيتهم لمجرد خروج أصناف السياسيين تلك عنها.
السوريون يكبرون بموقفهم الوطني، لأنه خيارهم قبل كل شيء، أما أنتم فتصغرون بخروجكم عنها، لأن هذا خيار أسيادكم ومعلميكم..