المسألة الكردية في ظل الأزمة!
من خصائص المراحل الانعطافية في حياة الشعوب والبلدان أن تصبح كل القضايا على بساط البحث، وذلك خارج إرادة القوى السياسية والأنظمة الحاكمة، وهذه الحقيقة كما نعتقد تنسحب على المسألة الكردية في سورية، التي ازداد وزنها النوعي في سياق تطورات الأزمة السورية وتناقضاتها.
في جذورالمسألة
تعتبر كل الحدود المرتسمة اليوم لدول المنطقة نتاج اتفاقات استعمارية، ونتاج توازن القوى الدولي الذي استقر على شكله الحالي بعد حربين كونيتين، وما أنتجته من ردات فعل من شعوب المنطقة، ونتيجة التنوع الثقافي والحضاري والأثني في دول الشرق تكونت دول متعددة القوميات ذات نموذج اقتصادي اجتماعي عُرف برأسمالية الدولة، بقيادة البرجوازية الصغيرة التي صعدت إلى السلطة على سلم المشروع القومي، هذا النموذج الذي اصطلح عليه سياسياً باسم الدولة الوطنية، لم تستطع إنجاز مهامها التاريخية المفترضة، بالأخص فيما يتعلق بالمشروع الوطني الديمقراطي، فبقيت التربة دائماً مهيأة للتنازع والدخول في صراعات ثانوية تشتد وتخبو حسب التوافقات الدولية والإقليمية. وضمن هذه الرؤية يمكن الاستنتاج: إن المسألة الكردية في سورية هي نتاج الماضي الاستعماري من جهة، ومظاهر سياسة التمييز القومي في نموذج الدولة الوطنية.
خرافة الحق التاريخي
حسب رأي القوميين العرب فإن المناطق التي يوجد فيها الأكراد السوريون هي ديار «مضر وربيعة»، وبالتالي هي أرض عربية، وعليه فإن الأكراد السوريين هم مهاجرون ولاجئون، وضيوف.. في حين يرى القوميون الأكراد أن هذه الأراضي تشكل جزءاً من كردستان، وباتوا يصطلحون عليها «كردستان الغربية»، مع كل ما تنطوي عليه التسمية من استحقاقات سياسية، الآن ولاحقاً..
وحقيقة الأمر لم تشهد هذه المنطقة استقراراً بمعنى الجغرافيا السياسية منذ آلاف السنين، وبالتالي الحديث عن الحق التاريخي وحدود قومية، ومحاولة ادعاء امتلاك صكوك الملكية لقومية من القوميات بما يلغي وجود القوميات الأخرى هو زعم باطل سواء أتى من هنا أو من هناك، فالشمال الشرقي السوري حيث المواطنون الأكراد السوريون هي أرض سورية، ومن يعيش فيها هم مواطنون سوريون ويجب أن يكونوا متساوين في الحقوق والواجبات مع كل السوريين،
وعدا عن ذلك فإن مصلحة الشعب السوري تقتضي مراعاة الخصائص الثقافية للقوميات غير العربية بما لا يؤثر على حقيقة أساسية وهي كون سورية وطناً واحداً لكل السوريين. إن محاولات إنكار الوجود واتباع سياسات التمييز القومي من النظام على مدى العقود الماضية لايبرر لبعض القوى القومية الكردية رفع شعارات قومية تتناقض مع وحدة البلاد بالمعنى الجغرافي- السياسي.. وضمن هذه الرؤية نعتقد أنه يجب تحديد الموقف من أطروحة الإدارة الذاتية التي تطرحها بعض القوى الكردية اليوم، فإذا كان المقصود من الشعار ملء الفراغ الناشىء بعد انسحاب أجهزة الدولة من كثير من بلدات ومناطق محافظة الحسكة، وأداة لتسيير الأمور وضبط الأمن، إلى حين الشروع بالحل السياسي وإنهاء الأزمة، فإنه إجراء منطقي وواقعي بشرط أن يكون متوافقاً عليه شكلاً ومضموناً بين كل أبناء المحافظة، ولكن من غير العقلاني والمنطقي أن يسبغ على شكل الإدارة الذاتية صبغة قومية بحتة تتناقض مع الواقع الموضوعي في تلك المناطق حيث التعدد القومي والديني، ومن غير المنطقي أيضاً محاولة ممارسة دور «الشقيق الأكبر» من بعض النخب الكردية. فالتجربة التاريخية لعموم دول المنطقة، ومنها سورية، تؤكد أنه لايمكن أن ينال أي من الأطياف حقوقه دون عملية تفاهم بين الجميع على أساس وطني.
حذار من الفتنة
تشكل الأوضاع السائدة في الشمال الشرقي من البلاد بيئة مناسبة لإثارة الفتن القومية والدينية، حيث في ظل غياب الدور الواقعي للدولة تطفو على السطح انتماءات ما قبل الدولة، وهي هنا قومية ودينية، فيبرز على السطح النفور القومي والعزلة القومية، مما يسمح بأن تلعب قوى مشبوهة دوراً تدميرياً. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذه المنطقة الحدودية، هي منطقة غنية بالثروات الاستراتيجية، وفيها من التناقضات والصراعات المفتعلة والتي تأججت في الظروف الحالية بسبب سلوك قوى من هنا وهناك، فإن الباب مشرّع على حدوث فتن، لاسيما بعد دخول الجماعات التكفيرية ميدانياً.. وإذا كان الرهان على القوى الوطنية الموزعة في كل مكان ممكناً حتى اليوم، فإن المطلوب أن تبادر هي إلى أخذ زمام المبادرة من القوى المتطرفة، وتعمل جاهدة للشروع بالحل السياسي وإنجاز المصالحة الوطنية. إن سورية الجديدة التي يريدها السوريون والتي دفعوا ثمن الوصول إليها دماءً غالية، ودماراً وهجرة واسعة، هي سورية موحدة، أولاً وقبل كل شيء، سورية العدالة الاجتماعية، سورية التي لامكان فيها للتمييز بين المواطنين على أساس ديني أو قومي أو طائفي.