«داروين» والشعب السوري

«داروين» والشعب السوري

لا تكفّ معظم التجمعات البشرية السورية التي تطلق على نفسها اسم «أحزاب سياسية» في النظام والمعارضة عن تبادل الاتهامات فيما بينها بالمسؤولية عن الأزمة/الحرب الدائرة على الأرض السورية، سواءً في التسبب بها، أو تسعيرها، أو عرقلة حلها.
هذا الاستهتار وانعدام المسؤولية لدى هذا الفضاء السياسي السوري الشائخ لا ينعكس سلبياً على الشعب السوري ومستقبل بلاده سوى من زاوية أنّه يطيل الأزمة ويرفع تكلفة الحل، إلا أنّه يمثّل من جهة ثانية الشكلَ الاجتماعي- السياسي لسيرورة قانون الاصطفاء الطبيعي، والذي يفتتح مرحلته الأولى بقاعدة «الزوال للأسوأ»، قبل البقاء للأصلح، ذلك أنّ الأصلح لاستمرار الحياة الاجتماعية اليوم ليس ذاك القادر على التكيّف مع النظام الاقتصادي- الاجتماعي الرأسمالي الحالي، لأنّه في أواخر مرحلته الإمبريالية المعاصرة قد استنفد جميع فرص وإمكانيات تكيفه مع استمرار الجنس البشري ذاته على كوكبنا في كلّ بقعة منه، ولا شكّ أنّ الأصلح سيكون تلك القوى الاجتماعية والسياسية القادرة على إسقاط هذا النظام وبناء النظام الاشتراكي الجديد. جعجعة طحنت الشعب انطلاقاً من هذه الرؤية يمكننا تقييم مدى صلاحية الشذوذات والتشوهات في الحركة الشعبية السورية منذ انطلاقتها الجديدة، ولاسيما أن الحياة أجابت عليها بسرعة وقسوة، منذ اختنقت الموجة الشعبية السلمية الأولى بسبب تخلّف وعيها السياسي، واعتمادها التنفس عبر الجلد الطائفي، بدل تطوير الرئات اللازمة لاستنشاق الهواء الوطني الجامع. ولم تستطع ضبط بوصلتها صوب مصالحها الطبقية الجذرية بجوهرها الاقتصادي- الاجتماعي، لذلك طعنها أعداؤها الموجودون في النظام والمعارضة معاً في صدرها وظهرها، وأُوقف زمن السِّلمية، وبدأ زمن «الرّوسية» وساد هدير السلاح، واختلط سلاح الجيش العربي السوري بوصفه الشرعي الوحيد بالعرف التاريخي الوطني والشعبي والدستوري، مع سلاح «اللجان» و«الدفاع الوطني» وما شابه من ميليشيات أخرى مشرعَنة بقوة الفساد الداخلي من جهة ثانية، مع ميليشيات السلاح «الحرّ» من جهة ثالثة، والسلاح العلماني والتكفيري المرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالبترودولار الأمريكي- الصهيوني عبر الفنادق والشاليهات المعارضة من جهة رابعة. ضرورة الحركة الجذرية نرى نموذجاً للتكيف السيئ والرجعي مع الأزمة، في مثال أبناء الطبقات الفقيرة والكادحة الذين تغرّر بهم بعض «الجهات المختصّة»- تحت يافطة الموالاة أو المعارضة لا فرق- بحرفهم عن مصالحهم الطبقية والوطنية، فتستغلهم مثلاً بالترهيب الطائفي أو الفئوي أو بالترغيب المادي أو المعنوي إلى العمل الطوعي أو المأجور في ميليشيات مسلّحة تزيد أزمة الوطن سوءاً وتستخدمهم حطباً لمصالح ضيقة، بدلاً من التطوع للدفاع المباشر عن لقمة حياتهم، مثلاً عبر لجنة حيّ تعمل ضدّ طمع وفساد التجّار، أو التطوّع في عمل سياسي منظّم دفاعاً عن مصالحهم الطبقية الواسعة. ولا يقلّ عن ذلك سلبيةً أولئك القاعدون بعيداً عن أي نشاط اجتماعي أو سياسي حقيقي، أو المكتفون بالثرثرة والتعليق و«التحليل» السياسي، وانتقاد عمل السياسيين، متناسين أنّهم «كما يكونوا يولّى عليهم»، وأنّ أطهر وأنقى الحقوق تموت إن لم يتحرك ويناضل أصحابها للمطالبة بها وانتزاعها من غاصبيها. حقوق الأغلبية الساحقة الكادحة من الشعب السوري، أصحاب الأجور، إنما ينالون جزءاً منها بالنضال المطلبي والاقتصادي ضدّ أصحاب الأرباح، ولاسيما الفاسدين الكبار منهم. وجزءاً منها بالنضال العسكري المباشر ضدّ العدو الأمريكي- الصهيوني وكلّ من يرتبط به أو يعمل لمصلحته، ولكنّها لن تنال حقوقها المعيشية والديمقراطية والوطنية الكاملة سوى بطريقة واحدة أعلى وأرقى وأكثر فعالية وتضمّ تلك الوسائل السابقة جميعها في حزمة واحدة. هذه الطريقة هي النضال السياسي، القادر على إحداث تغيير جذري وشامل نحو نظام اقتصادي- اجتماعي سياسي جديد يعبّر عن مصالحها. عندئذٍ فإنّ السياسات الليبرالية الجديدة التي أضرّت منذ سنوات ما قبل الأزمة، ومازالت مستمرة بوجوهها الجديدة في الإضرار بالمصالح الحقيقية لهذه الأغلبية الشعبية، والتي أنهكت البلاد وفتحت بوابات الاختراق للعدو الخارجي، تلك السياسيات التي تعتبر لكل ذلك لاوطنية في الجوهر وبالمطلق، فإنّها ستتعرض مع أصحابها إلى الترحيل والزوال عبر قانون الاصطفاء الصّارم ذلك أنّ الشعب والشعب وحده هو الأصلح.