استراتيجية أمن قومي أم تنظيم التراجع؟
السمة الأساسية في خطاب الرئيس الأمريكي حول استراتيجية الأمن القومي يوم أمس، هي أنها استراتيجية موجهة إلى الداخل، في إطار الصراع بين مراكز النفوذ في النخبة الأمريكية، وهي محاولة إلى إعادة تنظيم صفوف أنصاره، بعد حملة الضغط والتشنيع التي تتصاعد ضد ممثلي خيار الانكفاء إلى الداخل، منذ اليوم الأول لحكم الإدارة.
عبارة «أمريكا أولاً» التي أخذت الحيز الأوسع في خطاب ترامب، في محاكاة لمصالح لمشاعر ومصالح فئتين في الداخل الأمريكي:
أولاً: شريحة الملاكين الحقيقيين لبلاد العم سام، الذين ضاقوا ذرعاً بالجهاز التنفيذي الذي تغول ونما دوره في ظل هيمنة الخيار النيوليبرالي، وتحديداً دور رأسمال المال المالي.
ثانياً: دافع الضرائب الأمريكي الناقم على الخيار النيوليبرالي، «الدولة التي ليس لها حدود ليست دولة»، «الدولة التي لا تقوم بحماية المصالح في الداخل والازدهار في الداخل لن تكون قادرة على حماية المصالح في الخارج». «الأمن الاقتصادي جزء لا يتجزأ من الأمن القومي، وتجاهل واحدة منها يجعلنا نخسر الاثنين معاً».
بعبارةٍ أخرى: لا جديد فعلياً لدى السيد ترامب، فالخطاب - من ألفه إلى يائه- صدى للحملة الانتخابية، وهي استمرار لسياسة تنظيم التراجع، والانكفاء إلى الداخل، دون أن يسعفه الحديث المطوَّل عن «إنجازات» إدارته خلال العام الفائت، والتي تكذبها الوقائع السياسية على امتداد مساحة العالم.
لكن المفارقة الظاهرة هنا، هي الزيادة اللافته في ميزانية الحرب: «700 مليار لأول مرة»، والتي جاءت - كما نعتقد- في سياق محاولة ضبط التوازنات الداخلية، ودور ونفوذ المجمع الصناعي العسكري، الذي تتوزع قوى النفوذ فيه بين شريحة «المديرين»، وشريحة «الملاكين».
التناقض ما بين سياسة الانكفاء إلى الداخل، وزيادة النفقات العسكرية، تعكس - من جملة ما تعكس- التناقضات بين مراكز القوى ضمن البنية الواحدة في ظل الأزمة العصية على الحل، ما أدى إلى التخبط الظاهر في السياسة الأمريكية خلال السنوات السابقة، وهي بدورها تفرز تناقضاً جديداً، هو التناقض بين المركز الإمبريالي ومصالحه الضيقة، وبين مصالح المنظومة وامتداداته الدولية، حيث يحاول السيد ترامب من خلال استراتيجيته، حلها من خلال فرض المزيد من الأتاوات على الحلفاء التقليدين، تحت راية الدفاع عن الحلفاء.
إن الأزمة التي تفجرت في ظل هيمنة الليبرالية الجديدة، والهيمنة المستمدة من «الطفرة الدولارية» هي أزمة غير تقليدية حتى بالنسبة لعلاقات الإنتاج الرأسمالية، وبالتالي، لم يستطع العقل البرجوازي «إبداع» حلول حتى الآن، وعبثاً يحاول ترامب من خلال خطابه الشعبوي، التوفيق بين «الانكفاء، وزيادة الانفاق العسكري»، فإما هذه، وإما تلك، والمشكلة تكمن في أنه لا هذه ولا تلك قادرتان على الخروج من الأزمة، ما يعزز تلك الفرضية التي تقول: آن أوان تغيير النظام نفسه.