افتتاحية قاسيون 764: «التاج» يقفز خارج المركب..!
تشكل نتائج الاستفتاء البريطاني حول البقاء في الاتحاد الأوروبي أو مغادرته، والتي جاءت لمصلحة المغادرة، مؤشراً هاماً، اقتصادياً وسياسياً، ليس بريطانياً ولا حتى أوروبياً فحسب، بل ودولياً أيضاً.
أول ما ينبغي فعله لفهم المسألة هو تحييد الأوهام المتعلقة بـ«الإرادة الحرة» للشعب البريطاني الذي «قال كلمته» عبر الاستفتاء، لأنّ الوقوع في هذا الوهم يعني ضمناً إنكار واقع التأثير الهائل لأدوات توجيه الرأي العام من إعلام ومنظمات غير حكومية وغيرها، والتي تمتلكها وتتحكم بها فئة طبقية محددة هي ذاتها التي تجمع بيدها خيوط المنظومة المالية والمصرفية الدولية بشقها الغربي (صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وملحقاتهما). وبتحييد هذه الفئة عن بؤرة المشهد يصبح من المستحيل معرفة المستفيد الحقيقي من هذا الإجراء، وتالياً معرفة ما يريده منه وما هي خطوته التالية.
الأمر الثاني الذي لا بد منه، هو وضع نتائج هذا الاستفتاء، ضمن السياق الدولي العام بجوهره المتعلق بالأزمة العالمية للرأسمالية وتطوراتها، وبشكله المتعلق بميزان القوى الدولي الجديد وتحولاته.
ضمن المنهجية السابقة، يمكن تثبيت جملة من النقاط الأساسية التي تفسر السير البريطاني نحو الخروج من الاتحاد الأوروبي، هي التالية:
أولاً: إنّ بداية إعادة هيكلة الاتحاد الأوروبي، وما يوازي ذلك من تحركات احتجاجية عمالية ومطلبية عامة في العديد من دول أوروبا، يعني بأكثر خطوطه عمومية، انتقال الأزمة الرأسمالية العالمية من طوريها المالي/ الاقتصادي، إلى طورها الاجتماعي- السياسي. وهذا الطور الاجتماعي- السياسي من الأزمة، هو أعلى أطوارها، وتليه عملية خلق البدائل ونسف المنظومة.
ثانياً: إنّ المرحلة التي نشأت فيها السوق الأوروبية المشتركة، وتطورت من ثم إلى اتحاد أوروبي، والتي امتدت منذ 1957 وحتى الآن، هي مرحلة صعود الرأسمالية بمقابل تراجع نقيضها، وهي مرحلة امتازت بعمل المركز الإمبريالي الأساسي الأمريكي- البريطاني على عزل الاتحاد السوفياتي في حينه، لمنع أية إمكانية لنهوض المشروع الأوراسي، بغض النظر عن التسميات والتخوم حينذاك.
واليوم مع روسيا الاتحادية الساعية لعالم متعدد الٌأقطاب ضمن البنية ذاتها مرحلياً يعيش مشروع العرقلة الامبريالي آخر فتراته. فعلى الرغم من محاولات العسكرة كلها، وتمديد نشاط الناتو نحو تخوم روسيا، بالترافق مع فرض وتجديد العقوبات الاقتصادية عليها، لم يمنع ذلك كله مزيداً من تبلور المشروع الأوراسي. بل تأتي تلك المحاولات الأمريكية على العكس تماماً محاولة غير واقعية للإمساك بما يمكن من دول أوروبا لعرقلة استدارتها الموضوعية باتجاه المشروع الأوراسي.
ثالثاً: إنّ تفكك الاتحاد الأوروبي المحتمل، وإن كان يشكل تعبيراً عن أزمة الرأسمالية العالمية ممثلة بمركزها الإمبريالي الغربي، فإنّه يعبر أيضاً عن درجة عمق هذه الأزمة، ففي الوقت الذي شهدت فيه الأزمات الكبرى السابقة، وحتى الحالية، عمليات تصدير للأزمة صوب الخارج المتمثل في بلدان العالم الثالث، فإنّ الجديد اليوم هو أنّ التراجع والانحسار الإمبريالي يدفع واشنطن إلى التخلي الإلزامي عن خط دفاعها الثاني- أوروبا، كلياً أم جزئياً.
رابعاً: في اليوم نفسه الذي أعلنت فيه نتائج الاستفتاء البريطاني، أعلن أيضاً عن انضمام كل من الهند وباكستان إلى منظمة شنغهاي للتعاون، أي أن الوقت العصيب الذي تمر به منظومة العلاقات الدولية القديمة، هو ذاته الذي يجري فيه خلق المنظومة البديلة وتعزيزها.
إنّ مجمل النقاط السابقة، تعيد التأكيد في عمقها على أن العالم أمام مرحلة جديدة من إعادة التشكل السياسي والاقتصادي، ميزتها الأساسية هي سرعتها العالية، وضمناً فإن ذهاب سورية إلى الحل السياسي قريباً، على خلفية تلك التحولات، وعلى خلفية موضوعية التغيير الجذري الشامل فيها على الصعد كافة، لن يكون استثناءً من اللوحة العامة بل نتيجة طبيعية لها!