التعاون العِلمي بين دول منظمة شنغهاي يدخل مرحلة عَمليّة جديدة
إنّ البحث والابتكار ليس ترفاً في عالَم اليوم المليء بالتحولات المصيرية والصراعات المحتدمة، والتي سيتوقّف على طريقة حلّها مصير البشرية اللاحق. ولذلك فإنّ ما تم الإعلان عنه ضمن المجال العلمي والتقني في قمة شنغهاي للتعاون المنعقدة مؤخراً في مدينة تيانجين الصينية (نهاية آب وبداية أيلول 2025)، يعكس إدراكاً متعاظماً لأهمية وضع استراتيجيات إقليمية ودولية للتنمية والأمن والتحول الرقمي، ولا سيّما في سياق يزداد فيه التنافس التكنولوجي، والضغوط البيئية، ومشكلات الصحة العامة، وغيرها من التحدّيات.
مع انعقاد قمة منظمة شنغهاي للتعاون في مدينة تيانجين، ظهرت إفصاحات جديدة تشير إلى مرحلة نوعية في التعاون العلمي والتكنولوجي بين الدول الأعضاء، حيث لم تكن مجرد تصريحات شعاراتيّة، بل بدأت تظهر مشاريع ومبادرات ملموسة على أرض الواقع تدعم الرؤية المشتركة للابتكار والتنمية التكنولوجية.
وكان من أبرز ما تم الإعلان عنه افتتاح مركز التعاون العلمي-التكنولوجي للصين ومنظمة شنغهاي في مدينة تشينغداو بمقاطعة شاندونغ. ويُعتبر هذا المركز خطوة استراتيجية لتعزيز التعاون المتعدد الأطراف في مجالات عدة: التقانة الحيوية، تصنيع المعدات المتطورة، والزراعة الحديثة ذات الكفاءة العالية.
وهذا المركز لا يقتصر على البحث العلمي، بل هو منصة متكاملة تجمع الفعاليات الأكاديمية، والمعارض، ومسابقات الابتكار للشباب وريادة الأعمال، إضافة إلى التبادل المعرفي بين الخبراء. كذلك يهدف إلى تسهيل نقل التكنولوجيا، ودعم الملكية الفكرية، وتأسيس مختبرات مشتركة، ومراكز بحث وتطوير بين الدول الأعضاء.
ومع افتتاح المركز جرى الإعلان عن 10 مشاريع دولية مهمة تغطي قطاعات ذات أولوية، منها الطب، والمعدات المتطورة، والزراعة الحديثة. كما أن هناك دعوات لإطلاق مسابقات ابتكار تُعنى بالشباب وريادة الأعمال، مع معارض لإنجازات علمية، مما يدل على رغبة في إشراك المجتمع الأكاديمي والابتكاري من مستويات مختلفة.
بيان التعاون العلمي-التقني لقمة شنغهاي 2025
أصدر قادة منظمة شنغهاي للتعاون في قمتهم الأخيرة في تيانجين بياناً تعهّدوا فيه بالدفع قُدماً بالتعاون في مجالات العلوم والتكنولوجيا والابتكار. وأكدوا على التعاون المتكافئ والمفيد لجميع الأطراف، واستكشاف نماذج جديدة للشراكات، وتعزيز القدرات الابتكارية.
وتم عقد اتفاق التعاون في مجال الذكاء الاصطناعي خلال القمة. حيث يبرز الذكاء الاصطناعي كأحد أهم محاور التعاون. وفي منتدى للتعاون الذكي بين الصين ودول منظمة شنغهاي عرضت تقنيات زراعية ذكية، مثل أنظمة الملاحة الأوتوماتيكية لمعدات الزراعة التي تعمل بخوارزميات ذكاء اصطناعي، ونظم ذكاء اصطناعي للتشخيص الطبي الرقمي، وحتى روبوتات للتنظيف في حمامات سباحة تَستخدم أجهزة استشعار ذكية.
من جهتها أصرّت الهند على مبدأ «الحقوق المتساوية» بين الدول الأعضاء في الوصول إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي وتطويرها، مما يعكس قلقاً من اختلال التوازن أو تفاوت القدرات بين بعض الأعضاء.
كما طرحت الصين رؤية تقوم على مشاركة فرص التقدم في الذكاء الاصطناعي والعلوم والتكنولوجيا مع بقية أعضاء المنظمة، بهدف تعزيز الابتكارات العلمية-التقنية والتنمية المشتركة. وتم الإعلان عن برامج تدريبية، خصوصاً في التعليم المهني، مثل «ورشات لوبان»، إضافة إلى برامج لتأهيل الكفاءات العلمية والتكنولوجية في دول المنظمة.
وفي مجال التعاون الرقمي والبنية التحتية الإلكترونية، جرى الإعلان عن مبادرات للتعاون الرقمي مثل: التجارة الإلكترونية العابرة للحدود، تقنيات التوقيع والعقود الإلكترونية، ومد كابلات الألياف الضوئية (مثل خط الصين-قرغيزستان-أوزبكستان) لتقليل زمن الاتصال، إلى جانب أنظمة الصحة الرقمية ومشروعات المدن الذكية.
وفي مجال التعليم وتنمية الموارد البشرية وقّع وزراء التعليم في الدول الأعضاء بمنظمة شنغهاي للتعاون 7 وثائق تعاون تركّز على التعليم الرقمي والتعليم عبر الحدود والذكاء الاصطناعي، وذلك في الاجتماع التاسع لوزراء التعليم في المنظمة.
كما أعلنت الصين عن مضاعفة عدد المنح الدراسية الخاصة بالمنظمة، وإطلاق برنامج دكتوراه ابتكارية مشتركة لتدريب الباحثين في مجالات العلوم والتكنولوجيا.
الاستدامة والرفاه العام وحَوكَمة الابتكار
لم تقتصر أهداف قمة شنغهاي على الاقتصاد والتكنولوجيا، بل شملت أيضاً التنمية المستدامة وتحسين رفاه المجتمعات والتعاون في مجال حوكمة العلوم والتكنولوجيا على المستوى العالمي. كما جرى التأكيد على ضرورة معالجة الفجوات الرقمية بين الدول الأعضاء، ورفع مستوى البنية التحتية والقدرات الرقمية لدى الدول الأقل تقدماً في هذا المجال.
من جهة أخرى، دُشّنت مبادرة «الدعوة المشتركة متعددة الأطراف للبحث والتطوير» بتنظيم من مؤسسة العلوم الباكستانية بالتعاون مع الدول الأعضاء، وهي تتيح تمويل مشاريع في مجالات مثل التكيُّف مع التغيُّر المناخي، وحماية البيئة، والعلوم الحياتية (الطب الوقائي، السيطرة على الأوبئة، تقنيات إطالة العمر الصحية) والزراعة المستدامة.
مركز بيانات ضخمة
من المشاريع الرقمية اللافتة أيضاً مركز البيانات الضخمة التابع للصين SCO في كراماي بمنطقة شينجيانغ، حيث تم تدريب أكثر من 300 مشارك من دوائر حكومية ومعاهد بحثية من أكثر من 20 جهة. كذلك «ورش لوبان» للتدريب المهني التي تم توسيعها لتشمل مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، البيانات الضخمة، واتصالات الجيل الخامس 5G، مما يعكس رغبة في بناء قدرات تقنية فعلية لدى الدول الأعضاء.
البُعد الدولي التحديات الكبرى والمخاوف
مع هذه الإنجازات، تظهر تحديات وأشكال من المخاوف التي قد تؤثر على الأداء والفعالية. ومنها تفاوت الإمكانات بين الدول الأعضاء: فبينما لدى الصين وروسيا قدرات كبيرة في البحث والتكنولوجيا، هناك دول وسط آسيا أو من الأعضاء الجدد قد تفتقر إلى البُنى التحتية أو الخبرة التقنية اللازمة للمشاركة الكاملة في المشاريع الكبيرة.
وعلى مستوى الحوكمة ونقل التكنولوجيا، تأتي الحاجة لضوابط واضحة في مجال الملكية الفكرية، وحقوق الاستخدام، والأمان الرقمي، وضمان ألّا يكون نقل التكنولوجيا أحادي الاتجاه، بل مبنياً على المنفعة المشتركة. وتحتاج المشاريع إلى تمويل مستمر وإدارة فعّالة، ويجب أن تُحدد ميزانيات واضحة، وأطر زمنية، وآليات تقييم، ومعايير للاقتصاد أو الاستدامة.
الالتزام السياسي الطويل الأمد
التعاون العلمي يحتاج إلى استقرار سياسي واستمرارية السياسات الوطنية والدولية؛ وأي تغيّر في أولويات الدول الأعضاء يمكن أن يضعف الالتزام أو يعيد ترتيب الأجندة.
وفي المجمل، يمكن القول إنّ المُخرَج الأساسي من القمَّة هو تنفيذ خطوات أكبر من مجرد التصريحات السياسية؛ فقد انطلقت مشاريع حقيقية، ومراكز جديدة، وبرامج تكوينية تلمس أرض الواقع. إلا أن نجاح هذه المبادرات سيقاس بالأفعال: مدى التزام الدول الأعضاء، وقدرة الدول الأقل تطوراً على المساهمة والانفتاح، وضمان أن تكون الفوائد مشتركة وعلى المستويات البحثية والعلمية والتقنية. هذا ما ستراقبه المجتمعات الأكاديمية، والخبراء والناشطون التكنولوجيّون في الفترة القادمة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1243