الغرب ينبش قمامتَه يائساً لتخفيف أزمة المعادن النادرة
بينما تواصل الصين تعزيز موقعها المهيمن في ملفّ المعادن النادرة الاستراتيجي، ظهرت الأسبوع الماضي عدة أنباء تستحق التوقف عندها لما تعطيه من مؤشرٍ لتفاقُم نزعة محدَّدة عالمياً يمكننا وصفها كالآتي: بينما تزداد مبادرات عدة دول آسيوية لاستخراج المزيد من العناصر الأرضية النادرة من مواردها الطبيعية، يبدو أنّ الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا الغربية) يضطر أكثر فأكثر إلى إعادة تدوير هذه العناصر من الأجهزة الإلكترونية المُصنّعة، وإيقاف أو تأجيل الكثير من عمليات الإنتاج في عدة مجالات، وهذا يعكس أزمة انحطاط غربي في الصناعة والابتكار ناتجة بالعمق عن الإدمان الاستعماري المزمن على نهب الآخرين.
تمكّنا من رصد الأنباء الآتية في أبرز المستجدات الأسبوع الماضي حول العناصر الأرضية النادرة:
- الصين تقدّم عرضاً لماليزيا لتوفير الدعم الفني في معالجة احتياطيّاتها الكبيرة من العناصر الأرضية النادرة، والمقدرة بنحو 16.2 مليون طن متري (بقيمة تقارب 175 مليار دولار). وشدّدت الصين على أن الشراكة ستكون بشكل رئيسي مع الشركات الماليزية المملوكة للدولة.
- روسيا تخطط لتوسيع إنتاجها من العناصر الأرضية النادرة، حيث وجّه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحكومة الروسية في «المنتدى الاقتصادي الشرقي» لوضع برنامج شامل لتطوير قطاع العناصر الأرضية النادرة في روسيا بحلول تشرين الثاني المقبل (2025)، مستفيداً من كون روسيا خامس أكبر دولة من حيث الاحتياطي.
- الهند تكشف عبر مسوحات جيولوجية جديدة في منطقة سفوح الهيمالايا (شمال شرقي البلاد) عن وجود أكثر من 70 مليون طن من العناصر الأرضية النادرة غير المستغلَّة، مما يمكن أن يعزز الصناعات المحلية وتقليل اعتماد الهند على الاستيراد. كما أعلنت شركة «كول إنديا» الحكومية عن وجود عناصر أرضية نادرة في حقول الفحم بمنطقة سينغراولي بولاية ماديا براديش. وتدرس الحكومة حالياً مدى جدوى استخراج هذه العناصر تجارياً.
- أما في الولايات المتحدة، فتعقد وزارة الحرب (البنتاغون) وشركة «آبل» اتفاقيات كبرى مع شركة «م.ب ماتيريالز» MP Materials وهي الشركة الصناعية الوحيدة للعناصر الأرضية النادرة في أميركا، حيث وقّعت اتفاقاً بقيمة 500 مليون دولار مع شركة آبل لإنتاج مغناطيسات من مواد معاد تدويرها تُستخدم في أجهزة آيفون ابتداءً من عام 2027. في الوقت نفسه، استثمر البنتاغون 400 مليون دولار في الشركة ليصبح أكبر مساهم فيها، مع ضمان شراء المغناطيسات لعشر سنوات قادمة.
الشرق يُنتج ويبتكر والغرب «يعيد التدوير»
وهكذا يبدو أنّ هناك ميلاً في تطوير المعادن النادرة يلعب فيه الشرق/آسيا (الصين، روسيا، الهند، ماليزيا وغيرها) ولو بنسب متفاوتة بالطبع (حيث الصين هي العملاق الأكبر بلا منازع)، الدور الأساسي وحتى شبه الحصري في الاستخراج والتعدين للعناصر الأرضية النادرة، مركّزاً على استغلال الاحتياطيات الطبيعية، وفتح مناجم جديدة، وضمان السيطرة طويلة الأمد على موارد الخام، مما يضمن استمرار الهيمنة على سوق العناصر الأرضية النادرة عالمياً. وبالمقابل يتجه الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا) أكثر نحو إعادة التدوير واستعادة العناصر عبر ما يعرف بالاقتصاد الدائري، وذلك من الإلكترونيات المستعملة، وتوربينات الرياح، والبطاريات، والنفايات الصناعية.
ومع أنّ هذا يمكن عزوه جزئياً إلى «الحظ والنصيب» الطبيعي الجيولوجي والجغرافي الذي جعل هناك تفاوتاً في هذه الثروة الطبيعية بين القارات، ولكن ليس هذا السبب الوحيد، حيث يتحمل الغرب مسؤولية عن أزمته في هذا الملف بسبب طبيعته الاستعمارية والنهّابة لعقود طويلة اعتمد فيها على الصين، وبالتالي دخل في حالة من «الراحة المُفسِدة» والكسل في الابتكار التكنولوجي والتطوير الصناعي للبنية التحتية والعملية المناسبة لتحسين جدوى الاستخراج، ليستفيق الغرب على مأزق الاعتماد المفرط في صناعاته التكنولوجية (السيارات الكهربائية، الهواتف الذكية، الأنظمة الدفاعية، الطاقة المتجددة) على مواد يهيمن عليها الشرق.
وفي السنوات الأخيرة، اعترفت مراكز البحث الغربية بوجود أزمة خطيرة في إمدادات المعادن النادرة، والتي تُعد أساسية لصناعة الأسلحة الحديثة أيضاً، ففي المجال العسكري «تُستخدم في أنظمة التوجيه الصاروخي، الرادارات، الطائرات المقاتلة وخاصة الشبحية (مثل F-35)، والأسلحة دقيقة التوجيه، والغواصات، والنظارات الواقية من أشعة الليزر. وأهميتها في هذا المجال، تجعل منها عنصراً استراتيجياً للأمن القومي للدول الكبرى». (المصدر: مركز دراسات قاسيون - من العصر الحجري إلى عصر العناصر النادرة...كعب آخيل الأمريكي/الغربي!). وتسيطر الصين على «34% من احتياطي العناصر الأرضية النادرة، و69% من تعدينها، و87% من تكريرها النهائي، وأكثر من 99% من تكرير العناصر الأرضية النادرة الثقيلة» (المصدر نفسه).
وهذا يمنح الصين نفوذاً استراتيجياً كبيراً على سلاسل الإمداد الغربية. ففي عام 2025، فرضت الصين قيوداً على تصدير هذه المعادن إلى الشركات الدفاعية الغربية، مما أدى إلى تأخيرات كبيرة في الإنتاج وارتفاع حاد في الأسعار، حيث ارتفعت بعض الأسعار إلى 60 ضعفاً مقارنة بالمستويات السابقة.
الغرب يضطر إلى إيقاف أو تأجيل عمليات الإنتاج
شركة آبل أعلنت مؤخراً عن تأجيل بعض خطوط إنتاج آيفون في مصانعها بآسيا، مع زيادة واضحة في البحث عن موردين جدد لمكونات حساسة. السبب يرتبط إلى حد كبير بتقلب أسعار وإمدادات معادن نادرة مثل النيوديميوم والتربيوم، الضرورية للمغناطيسات الدقيقة داخل المحركات والعدسات والكاميرات.
أما إنفيديا الأمريكية، الرائدة في صناعة وحدات معالجة الرسوميات (GPUs)، فقد واجهت ضغوطاً في تلبية الطلب المتزايد من أسواق الذكاء الاصطناعي والألعاب. هذه الشرائح تعتمد على عناصر نادرة مثل الإيتريوم واللانثانوم في المكونات الإلكترونية والمغناطيسات عالية الكفاءة. ومع تزايد القيود الصينية على التصدير في 2025، تجد الشركة نفسها مضطرة لإعادة هيكلة سلاسل التوريد وربما نقل جزء من التصنيع أو الاستثمار في إعادة التدوير لتعويض النقص.
في محاولة لتقليل الاعتماد على الصين، استثمرت وزارة الحرب الأمريكية (البنتاغون) 400 مليون دولار في شركة MP Materials، وهي الشركة الصناعية الوحيدة للمعادن النادرة في الولايات المتحدة، لتطوير منشأة لتصنيع المغناطيسات الدائمة. ولكن ليس من المتوقع أن تبدأ هذه المنشأة عملياتها قبل العام 2028، أيْ بعد 3 سنوات من الآن، في وقت يشهد فيه الصراع الاقتصادي والجيوسياسي العالَمي استعاراً تاريخياً غير مسبوق قد يجعل كلّ تأخير حتى لو بالأشهر مشكلةً كبيرة، فما بالك بسنوات؟ بالإضافة إلى ذلك، تعمل الولايات المتحدة مع حلفائها، مثل كندا وأستراليا، على تطوير سلاسل إمداد بديلة للمعادن النادرة، من خلال إنشاء مراكز معالجة وتكرير في هذه الدول. ورغم هذه الجهود، لا تزال هناك تحديات كبيرة أمام الغرب في تأمين إمدادات مستقرة من المعادن النادرة. تشمل هذه التحديات ارتفاع تكاليف التعدين والمعالجة، والمخاوف البيئية، والاعتماد على دول ذات استقرار سياسي محدود مثل ميانمار.
وهكذا تُظهر الأزمة الحالية في إمدادات المعادن النادرة مدى هشاشة سلاسل الإمداد الغربية لهذه المواد الحسّاسة والحاسمة في كثير من الصناعات الحديثة، ولا سيما في القطاع العسكري، مما يجعل تأمين إمدادات مستقرة منها أمراً بالغ الأهمية للأمن القومي الغربي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1242