العمل الذِّهنيّ والعَضَلِيّ وثورة الذكاء الاصطناعي (1)

العمل الذِّهنيّ والعَضَلِيّ وثورة الذكاء الاصطناعي (1)

إنّ الواقع الفيزيولوجي لجسم الإنسان يفرض أنّه لا مناص من مشاركة الدماغ البشري كأساس في الجهاز العصبي المركزي في تنشيط العضلات البشرية وتنظيم أدائها وضبطه وإتقانه، لذلك فإنّ أيّ عمل يُنفَّذ باستخدام العضلات البشرية يُنفذ أيضاً باستخدام الدماغ البشري، ومع ذلك هذا لا يلغي التمييز الكيفي الهامّ بين نوعين من العمل البشري: العمل الذهني والعمل العضلي. فعلى أيّ أساس نميّز بينهما؟ ولماذا تعيد ثورة الذكاء الاصطناعي هذه المسألة إلى الواجهة بحيويّة جديدة؟

يرى بعض الباحثين المعاصرين - كما في مقالات حديثة في مجلّة الأبحاث العالمية «الذكاء الاصطناعي والمجتمع AI & Society» - بأنّه لحلّ هذه المسألة التعريفية للتمييز بين نوعي العمل البشري، يمكن اعتبار العمل «عضلياً» عندما يكون الدور الأساسي للدماغ فيه هو تنشيط العضلات أثناء القيام بالعمل، بينما يعتبر العمل «ذهنياً» عندما يكون الدور الأساسي للدماغ فيه هو تنشيط عمليات إدراكية «داخلية».

ومع ذلك، يبدو أن جميع أنواع العمل الحقيقية في الواقع تنطوي على كلا نمطي نشاط الدماغ. على سبيل المثال، حتى مطوِّري البرمجيات، الذين قد يكونون مثالاً نموذجياً للعمال الذهنيِّين، ينشّطون عضلاتهم لكتابة الشفرات البرمجية. وبالتالي، يجب على أدمغتهم تنشيط بعض عضلاتهم على الأقل لتحريك أصابعهم والكتابة. من ناحية أخرى، حتى عمال خطوط المصانع، الذين قد يكونون مثالاً نموذجياً للعمال العضليِّين، يجب عليهم إجراء عمليات معرفية قد تكون «أبسط» نسبياً لإكمال مهامهم بشكل صحيح. فإذا قاموا، على سبيل المثال، بتجميع بعض المنتوجات، يجب أن يتذكّروا بالضبط كيفية تجميعها في كلّ مرة أو على الأقل في عدد كافٍ من المرّات الأولى قبل أن يصبح أداؤهم «شبه انعكاسي»، وهو ما يتضمن عمليات معرفية ذهنية ضرورية تجري داخل أدمغتهم يتضافر فيها تركيز الانتباه الواعي والذاكرة وغيرها من النشاطات الدماغية.

بهذا المعنى، صحيحٌ أنه لا يكاد يكون أيّ عمل بشري حقيقي ذهنيّاً بحتاً أو عضلياً بحتاً. ومع ذلك، يبقى التمييز بين نوعي العمل عِلميّاً وصالحاً إذا قبلنا ضمن التعريف بأننا نقصد مدى «الغَلَبة النسبية» لمساهمة العمليات الذهنيّة المعرفية داخل الدماغ المطلوبة في كلّ منهما؛ حيث تكون هي المسيطرة والغالبة في العمل الذهني مقارنة بالعمل العضلي.

ميزتان للذكاء الاصطناعي

قام باحثون بدراسة تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل من خلال تشبيهه بالتقنيات الثورية السابقة، مثل الروبوتات أو البرمجيات. مع ذلك، ردّ عليهم باحثون آخرون بأنّ هذا التشبيه مُضلِّل لأنه يُغفل جانبين مُميَّزين مهمين للذكاء الاصطناعي، هما «العمومية» و«التكلفة الهامشية الضئيلة»، وفهمهما ضروري لتقييم تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل.

أولاً- العمومية: في الاقتصاد، يُفترض عادةً أن العديد من أنواع العمل الملموسة (مثل عمل المحامي أو عامل البناء) تتطلب غالباً أداء مهام مختلفة. على سبيل المثال، يحتاج المحامي إلى تذكُّر القوانين ذات الصلة، والتفاعل مع الموكِّلين والمدَّعين غيرهم، وكتابة العقود ومراجعتها، وما إلى ذلك. لهذا السبب، إذا تمت أتمتة إحدى هذه المهام (مثل إنشاء محرّك بحث عن القوانين استناداً إلى قاعدة بيانات ذات صلة)، فلن يتلاشى الطلب على المحامين الحقيقيين، لأنّ بقية المهام لا تزال بحاجة إلى أن يقوم بها محامٍ. لذا، يُفترض أن هذه التقنيات تزيد من إنتاجية المحامين بدلاً من أن تحل محلهم.

في الواقع، نجحت التقنيات السابقة في أتمتة مهمّة واحدة فقط، أو على الأكثر، عدد محدود من المهام. في بعض الأحيان، كان ذلك كافياً لتحل محل نوع معين بالكامل من العمل عندما يتطلب الأخير إجراء مهمة واحدة فقط أو عدد محدود من المهام. ومع ذلك، ظلت التكنولوجيا غير قادرة على استبدال أنواع العمل التي تتطلب إجراء العديد من المهام المختلفة. ومع ذلك، تبدو الأمور مختلفة عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي. ولذلك أطلق بعض الباحثين على الذكاء الاصطناعي بأنه «تكنولوجيا عموميّة الغرض»، وسمّاه آخرون «تكنولوجيا متعددة الأغراض»، وكلها تعبيرات مختلفة عن الميزة النوعية الجديدة نفسها التي جاءت بها ثورة الذكاء الاصطناعي: عموميَّتها بمعنى أنّ الذكاء الاصطناعي يمكّن المرء «من إكمال مجموعة متنوعة من المهام دون الحاجة إلى معرفة متخصصة» ووصف بعض الباحثين نطاق المهام التي يمكن للذكاء الاصطناعي القيام بها بأنها «مهام معرفية، على عكس المهام العضلية»، ولذلك أطلقوا على الذكاء الاصطناعي اسم «آلة التفكير».

يُشير كورينك وستيغليتز (2019) إلى أنّ الكثيرين يتفقون على أن «الذكاء الاصطناعي يختلف اختلافاً جوهرياً عن الاختراعات السابقة: فمع اقتراب الذكاء الاصطناعي تدريجياً من الذكاء البشري العام، يُصبح جزء كبير من العمل البشري مُعرّضاً لخطر التقادم واستبداله بالذكاء الاصطناعي في جميع المجالات».

يبدو إذاً أن الذكاء الاصطناعي يختلف اختلافاً جوهرياً عن التقنيات السابقة بفضل كونه عامّاً، أي بفضل قدرته على أداء العديد من المهام المختلفة، مع كون ما يجمع بين جميع هذه المهام هو أنها جميعاً «معرفية».

وربطاً بمفهوم العمل الذهني، يبدو أن نطاق أنواع العمل التي يمكن للذكاء الاصطناعي استبدال العمل الذهني البشري بها، تتوسع وسوف تتوسع أكثر مع المزيد من تطوّر الذكاء الاصطناعي الذي ما زال تكنولوجيا في مقتبل العمر بالمعنى التاريخي.

ثانياً- التكلفة الهامشية المهمَلة تقريباً: في علم الاقتصاد، يشير مصطلح «التكلفة الهامشية» - على عكس ما يسمى «التكاليف الثابتة» - إلى التكلفة الإضافية لإنتاج وحدة واحدة إضافية من بعض المنتجات. عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي، يعتبر البعض أنّ الوحدة الواحدة من المنتوج يمكن اعتبارها كلّ استجابة يعطيها الذكاء الاصطناعي استجابةً لأمر (أو سؤال) نطلبه منه. على سبيل المثال، عند سؤال روبوت محادثة يعمل بالذكاء الاصطناعي (إيه آي تشات-بوت): «ما هي الصيغة الكيميائية للماء» ويرد بأن «الماء يتكون كل جزيء منه من ذرتي هيدروجين وذرة أوكسجين»، يمكن القول إن روبوت المحادثة قد أنتج وحدة واحدة من المنتوج، أي استجابة واحدة للمطلوب. لذا، فإن السؤال هو ما هي التكلفة الإضافية لإنتاج كلّ استجابة إضافية. هذا سؤال مهم في اقتصاد السوق، لأن تحديد التكلفة الهامشية لتوليد الاستجابات بواسطة الذكاء الاصطناعي له آثار مباشرة على تسعير المنتجات القائمة على الذكاء الاصطناعي.

حتى الآن يبدو أنه في الواقع تتميز التكلفة الحدية لاستجابات الذكاء الاصطناعي بأنها (أو على الأقل تصبح) ضئيلة بمعنى أنها منخفضة للغاية. وقد قدرت أبحاث أجريت عام 2023 التكلفة الحدية لكل استجابة لروبوتات الدردشة بالذكاء الاصطناعي بما يتراوح بين 0.0006 دولار إلى 0.024 دولار فقط (وهذا يعني أنّه يمكن بتكلفة دولار واحد كحد أقصى خوض حوارٍ طويل مع الذكاء الاصطناعي تحصل من خلال على 44 جواباً).

وفي الآونة الأخيرة، مع إطلاق روبوت الدردشة الصيني «ديب سيك» DeepSeek، من المتوقع أن تنخفض التكاليف أكثر. والتكلفة الحدية لاستجابات الذكاء الاصطناعي منخفضة، حيث إنها تتلخص في النهاية في تكاليف الطاقة وحدها بمجرد أن يصبح نظام الذكاء الاصطناعي منتشراً. وبالتالي، فإن التكلفة الحدية للذكاء الاصطناعي ضئيلة بمعنى أن التكلفة الإضافية لتوليد استجابة إضافية منخفضة للغاية وتصبح أقل بشكل متزايد بحيث قد تصبح مهملة نسبياً. يمكننا أن نسمي هذه الميزة الثانية بأنها تجعل الذكاء الاصطناعي ذا «جدوى اقتصادية عالية« و«إنتاجية» عالية.

لا تنتهي المسألة هنا، فإنّ المشكلة المرتبطة مباشرةً بالعواقب أو المنافع (السلبيات والإيجابيات) الاجتماعية-الاقتصادية والحضارية لثورة الذكاء الاصطناعي تتعلق في الاختلاف بين طرق استغلاله في كلٍّ من الرأسمالية والاشتراكية، وهذا يستحقّ متابعة نقاش الموضوع في مقالٍ مستقل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1244