قانون القيمة ومعدَّل الربح في الصين (1)
في مؤتمر «المبادرة الدولية للارتقاء بالاقتصاد السياسي/IIPPE»، بدورته للعام 2023، تناول البروفيسور (ديك لو) سؤالاً تصدَّر الإعلام الغربي لفترةٍ، عقب جائحة كوفيد-19: «هل التباطؤ الاقتصادي الأخير في الصين مؤشر على زوالها الوشيك؟». ورجّحَ (لو) أنّ تباطؤ الصين ليس ناجماً عن «نقص الطلب المحلّي» كما يدّعي العديد من الخبراء البرجوازيين، بل عن انخفاض معدّل ربح رأس المال فيها، ولكن مع فارقين هامَّين: 1- ربحية القطاع الصناعي الصيني ما تزال مرتفعة بينما تراجعت ربحيّة القطاعات غير المنتجة كالعقارات وسوق الأسهم. 2- انخفاض الربحية في الصين ليس ناتجاً فقط عن ارتفاع التركيب العضوي لرأس المال (مثل الغرب)، بل وكذلك عن ارتفاع حصّة الأجور في توزيع الثروة (على عكس الغرب)، ممّا يشير إلى تحسُّنٍ في العدالة الاجتماعية.
قال الباحث مايكل روبرتس إنه يتفق مع نتيجة (ديك لو) هذه، حيث توصّل إليها روبرتس أيضاً بدراسته لهذا الموضوع في كتابه المشترك مع غواليلمو كارشيدي (الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين، 2023، ص213–214). ونقدّم فيما يأتي تلخيصاً لأهمّ المُحاجَّات التي أورداها في كتابهما بهذا الخصوص.
قانون القيمة ومَصير الإنتاجية والربحيّة
ينصّ قانون القيمة لماركس على أنّ قيمة البضاعة تتحدَّد بوقت العمل الضروري اجتماعياً اللازم لإنتاجها، أي بالإنتاجية الوسطيّة للعمل، وبالتالي بتقنيّات وكثافة العمل. صحيح أنّ بعض «القيم الاستعمالية» متاحة بلا عمل (مثل الهواء أو أيّ شيء طبيعي جاهز ليستعمله أو يستهلكه الإنسان مباشرةً)، ولكنّ إنتاج «القيمة» في «بضاعة»، وبالتالي القيمة الزائدة والتركيب العضوي لرأس المال ومعدّل ربح رأس المال، غير ممكن دون العمل البشري. في عام 1898، حاول الاقتصادي فلاديمير دميترييف دحض نظرية القيمة لماركس، عبر تصوُّرِ اقتصاد افتراضي تقوم فيه الآلات (الروبوتات) بكلّ شيء بغياب أيّ عمل بشري.
الاقتصاد البرجوازي السائد يُنكِرُ قانونَ القيمة أو يتجاهله. وكان دميترييف من «الريكارديِّين الجُدد» - نسبةً إلى ديفيد ريكاردو. وجادَلَ آنذاك أنّه نظراً لوجود فائض ضخم يتم إنتاجه «دون عمل»، فإنّ نظرية القيمة لماركس «خاطئة». لكن هذه «التجربة الذهنية» لدميترييف لا تستقيم، لأنّه وغيره من الاقتصاديين السائدين لا يفهمون القيمة في نمط الإنتاج الرأسمالي. إذ إنّ القيمة المحتواة في بضاعة (سلعة أو خدمة للبيع) لها وجهان: قيمة استعمالية، وقيمة تبادلية (في المال والربح الذي يجب تحقيقه عبر البيع). ودون هذا الأخير لا يحدث الإنتاج الرأسمالي، وقوَّة العمل بالذّات هي التي تخلق هذه القيمة، أمّا الآلات فلا تخلق أيَّ قيمة (ربح).
وفي الواقع، لن يكون اقتصاد دميترييف الفائق الوفرة والقائم على الروبوتات فقط، اقتصاداً رأسمالياً، لأنّه لن يكون هناك ربحٌ للرأسماليّين الأفراد. وصحيحٌ أنَّه مع تطوُّر الرأسمالية تَحلُّ الآلات بشكلٍ متزايد محلَّ قوة العمل البشرية (الأتمتة، الحَوسَبة، الذكاء الاصطناعي...)، ممّا يرفع إنتاجية العمل؛ بمعنى ارتفاع كفاءة الحصول على قيم استعمالية أكثر كأشياء وخدمات، لكنّ هذا يحصل بالضرورة على حساب انخفاض الربحية، والذي يؤدّي بشكل دوري إلى تعطيل إنتاج الرأسماليين الأفراد لأنّهم لا يريدون استخدامَ العمل والآلات سوى لتحقيق الأرباح. لذلك فإنّ الأزمات تتفاقم في الرأسمالية قبل زمن طويل من وصولنا إلى عالَم الروبوتات الافتراضي الذي تَصوَّرَهُ دميترييف.
وبلغة الرياضيّات يمكن القول إنه في عالم شامل للروبوتات/الذكاء الاصطناعي، تسعى الإنتاجية (وبالتالي القيم الاستعمالية) إلى اللّانهاية، بينما تسعى الربحيّة (نسبة القيمة الزائدة إلى قيمة رأس المال) إلى الصفر.
لماذا تنجح الصين بالمناوَرة مع قانون القيمة؟
وجدت قيادة الحزب الشيوعي الصيني بأنّ طريقة إدارة اقتصاد البلاد في ظل الشروط التاريخية والدولية القائمة أواخر سبعينيّات القرن العشرين أخذتْ تستنفد قدرتَها على تحقيق مزيد من التوسُّع الصناعي. ولذلك جاء التغيير في السياسة، في عهد دينغ شياو بينغ عام 1978 نحو مسار مختلف عن الاتحاد السوفييتي، لتسريع النمو الاقتصادي والتصنيع. فقامت الصين بفتح اقتصادها أمام الإنتاج الرأسمالي المحلّي والاستثمار الأجنبي ولكن ضمن حدود. في الواقع، كانت هذه أشبه بنسخة صينية (ولكن أطول وأعمق) من السياسة الاقتصادية الجديدة (نيب/NEP) التي اضطرّ إليها لينين في روسيا السوفييتية أوائل عشرينيّات القرن العشرين. وخلص تقرير للبنك الدولي عام 2003 إلى أنّ نمط الإنتاج الرأسماليّ «لا يزال غير مهيمن في الصين». ومن المعروف أنّ ما يحكم إنتاج السلع في علاقات السوق الرأسمالية هو الربح، حيث يحدِّد معدَّلُ الرِّبح دوراتِ الاستثمار ويولِّد أزماتٍ اقتصادية دورية. لكنّ هذا لم ينطبق على الصين، لأنّ الأزمات المنتظمة والمتكررة للاستثمار والإنتاج التي شهدتها الاقتصادات الرأسمالية الرئيسية لم تحدث في الصين منذ عام 1949. وهذا لا يعني أنّ الصين لم تتأثر بها مطلقاً، لكن التأثير اقتصر على انخفاض في التجارة كلّما عانت اقتصادات مجموعة السبع (الإمبريالية) من الركود. وعلى عكس الاقتصادات الرأسمالية الكبرى، لم تشهد الصين تراجعاً في ناتجها المحلّي الإجمالي في أيّ عام منذ 1973.
وأقرَّ البنك الدولي (على مَضَض) بأنّ النجاح الاقتصادي المُذهل الذي حقّقته الصين على مدى الثلاثين عاماً الماضية كان قائماً على اقتصادٍ تَحقَّقَ فيه النموّ من خلال التخطيط الحكومي البيروقراطي وسيطرة الحكومة على الاستثمار. ربّما كان مُعَدَّل نموِّها الاقتصادي مماثلاً للاقتصادات الرأسمالية الناشئة لفترة من الزمن في القرن التاسع عشر عندما كانت هذه الأخيرة في طور «الانطلاق». ولكن لم يسبق لأيّ دولة أنْ نمت بهذه السرعة ولهذه الفترة الطويلة ولهذا الحجم معاً (حيث تضمّ الصين 22% من سكان العالم).
انتشلت الصين 850 مليون نسمة من شعبها من براثن الفقر المُعرَّف دولياً. حتى الآن، لم يخضع القطاع المملوك للدولة في الصين لسيطرة السوق، أو لقرارات الاستثمار القائمة على الربحيّة وحدَها، أو يخضع للشركات الرأسمالية أو المستثمرين الأجانب. وفي حين يعتبر بعض الباحثين الماركسيين هذا الإنجاز الصيني في مكافحة الفقر دليلاً قويّاً على تصنيف اقتصادها بأنه اشتراكيّ، يتحفّظ مايكل روبرتس على أخذه كمعيار وحيد، فيقول: «الحد من الفقر يُعدّ أمراً حيوياً للعمالة، ولكنه في حدّ ذاته ليس مؤشّراً على التوجه الاشتراكي. والحد من الفقر ضروري لشرعية الحزب الشيوعي الصيني كصاحب سلطة ولتوسيع السوق الداخلية». مع ذلك يضيف روبرتس: في الصين هناك تنافس بين التراكم الرأسمالي والتراكم الاشتراكي، ممّا ينتج تطوُّراً متعرِّجاً.
أساس التنمية الطويلة الإنتاجية أم الربحية؟
وفقاً للماركسيّة فإنّ مستوى الإنتاجية هو الذي يُحدِّد النمو الاقتصادي لأنّه يُقلِّل تكلفة الإنتاج من حيث وقت العمل، ويسمح للدولة بالمنافسة في الأسواق العالمية. ولكن في نمط الإنتاج الرأسمالي تدخل الإنتاجية في تناقض مع الربحيّة بعلاقة عكسية طويلة الأمد بتأثير قانون ميل معدل الربح إلى الانخفاض مع تراكم رأس المال.
بعض الاقتصاديين يقتبسون عن الاقتصادي والمُعارِض الصيني-الأمريكي (مينكي لي) قوله: «إنّ الصين إذا اتبعت القوانين الاقتصادية نفسها بشكل أساسي كما الحال في الدول الرأسمالية الأخرى، كالولايات المتحدة واليابان، فإنّ انخفاض معدل الربح سيتبعه تباطؤ في تراكم رأس المال، مما يؤدي إلى أزمة اقتصادية كبيرة». ويعلِّقُ روبرتس على (مينكي لي) بالتساؤل فيما إذا كان الاقتصاد الصيني تهيمن عليه القوانين الاقتصادية الرأسمالية نفسها؟ يقول روبرتس إنّ اقتصاد الصين لا تهيمن عليه السوق أو قرارات الاستثمار القائمة على الربحية، أو الشركات الرأسمالية أو المستثمرين الأجانب، ويستند في ذلك إلى مؤشِّر الارتباط الإيجابي الضئيل بين ربحية رأس المال الصيني ونمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لمعظم الفترة منذ تشكيل جمهورية الصين الشعبية، ممّا يشير إلى أنّ الصين وجَّهت استثماراتها نحو القطّاعات الأكثر تعزيزاً للإنتاجيّة حتّى لو لم تكن الأكثر ربحيّة، وهو سلوك من الصعب جداً أن تقوم به دولة خاضعة بالكامل لآليات الاقتصاد الرأسمالي، وإذا حدث واضطرت دولة رأسمالية لترجيح الإنتاجيّة على الربحية فسيكون ذلك استثنائياً وجزئيّاً ومؤقّتاً فقط.
وهكذا، فإنّ ربحية رأس المال لم تكن هي المحدِّد لمستوى الاستثمار في الأصول الإنتاجية والنمو الاقتصادي خلال معجزة النمو الصينيّة قبل العام 1978. أمّا منذ إصلاحات دينغ في ثمانينيات القرن الماضي، فأصبح هناك ارتباط بين الربحية والإنتاجية في الصين، ولكن بقوة أقلّ مما هو عليه في بقية اقتصادات مجموعة العشرين أو مجموعة السبع. وبعد خصخصة الصين أجزاءً من قطّاعها الحكومي في التسعينيات وانضمامها إلى منظمة التجارة العالمية عام 2000، ازداد بشكل ملحوظ تأثير مدى ربحية رأس المال على نموّ الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الصين، مما جعل اقتصادها أكثر عرضة للأزمات في قطّاعه الرأسمالي ولتأثيرات رأس المال الدولي وربحيّته. ولكن بقي قانون القيمة في الصين «محاصَراً تماماً، ثم قُيّدَ وتمت السيطرة عليه لاحقاً عن طريق قطاعٍ عام كبير مملوك للدولة، وبواسطة التخطيط المركزي وسياسة الدولة» بحسب استنتاج روبرتس وكارشيدي، وسنفصّل في ذلك أكثر وبالأرقام في الجزء الثاني من هذا المقال.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1227