أساسيّات الفهم العلمي للأزمة الرأسمالية (3- رأس المال الوهمي)
يلعب القطاع المالي (وخاصةً حجم وحركة الائتمان/الديون) دوراً في الأزمة الرأسمالية. فيُعد نمو الائتمان والمضارَبة بالأسهم والسندات وغيرها من أشكال الأصول النقدية، أو «رأس المال الوهمي»، أحد العوامل المُعاكسة للاتجاه الهبوطي في ربحية الرأسماليين الذين يُحوِّلون استثماراتهم إلى المجال المالي الأكثر ربحية (الأَموَلَة). ولكنه يخلق مشكلة في الاقتصاد ككل، لأنّ تنامي الأموَلة والمضاربة يضخّم الفقاعة المالية ويضعِف قطّاعات «الإنتاج الحقيقي» التي هي وحدها ما يُؤمِّنُ القيمة الزائدة عندما يطالبُ التَّمويل بأرباحٍ حقيقية مقابِل أرباحِه الورقية.
يرى مايكل روبرترس أنّ على الباحث في النظرية الماركسية للأزمة الرأسمالية، وخاصة في ارتباطها بقانون ميل معدّل الربح للانخفاض، أنْ يميّز بين ثلاثة أنماط «زمنيّة» للقيمة: القيمة الموجودة سابقاً (س)، والقيمة المنتجة الجديدة (ج)، والقيمة المستقبلية المتوقَّعة (م).
وفي نظرية ماركس، يتوافق مفهوم رأس المال الثابت (c) مع القيمة الموجودة سابقاً (س)، في حين أن رأس المال المتغير (v) والقيمة الزائدة (m) يتحدد مقدارهما النسبي من خلال الصراع الطبقي. أمّا مفهوم القيمة المُستقبلية (م) فمع أنّ ماركس لم يطوِّره كثيراً، لكنه مُضمَر في مناقشات ماركس لنظام الائتمان و«رأس المال الوهمي».
الهروب من انخفاض الربحية عبر الأمْوَلة
إنّ ما وصفه ماركس برأس المال الوهمي fictitious capital (الفصل 30 من المجلد الثالث لرأس المال)، هو رأس المال النقدي المُقدَّم مقابل سندات ملكية رأس المال الإنتاجي وغير الإنتاجي، أي الأسهم والسندات والمشتقات المالية، وما إلى ذلك، وسمّي وهميّاً للسبب الآتي: لأن سعره يفقد ارتباطه بالقيمة والربحية في الإنتاج الرأسمالي. وهذا يؤدي في النهاية إلى انفجار فقاعة الائتمان، حيث تستند أسعار هذه الأصول إلى المضاربة على عوائد مستقبلية على الاستثمار في الأصول الحقيقية والمالية، لكن تحقيق هذه العوائد يعتمد في نهاية المطاف على خلق قيمة جديدة في القطاع الرأسمالي الإنتاجي (الحقيقي)، أيْ أنّ رأس المال الوهمي ينطوي على المراهنة على قيمة افتراضية لم تُنتَج بعد، وقد لا تُنتَج أبداً.
وبما أنّ الاقتصاد الرأسمالي هو اقتصاد نقوديّ وفقاً لماركس، فإنّ الائتمان (الدَّين) يُشكِّل عنصراً أساسياً فيه. ويوجد رأس المال إمّا في صورة سيولة (نقداً) أو في صورة ملموسة كوسائل ومواد إنتاج أو سلع. وفي التداول العام لرأس المال والسلع، يحل الائتمان بجميع أشكاله محل النقد بشكل متزايد. وكتب ماركس أنّ «رأس المال الوهمي» نوعٌ من الثروة الوهمية التي تُمثل جزءاً مهمّاً من ثروة الأفراد، ليس هذا فحسب بل وتُمثّل كذلك نسبة كبيرة من رأس مال المصرفيّين. بالنسبة لماركس، تُعتبر الأدوات المالية - الائتمان وحقوق الملكية - حقوقاً في القيمة الحالية/الجديدة (ج) أو المستقبلية (م) لرأس المال: «الورقة المالية بمثابة سند ملكية يُمثل رأس المال، بينما تُمثل أسهم السكك الحديدية والمناجم وشركات الملاحة وما شابهها رأس المال الفعلي».
السيولة العالمية مقياسٌ لرأس المال الوهمي، وقد ارتفعت من 150% من الناتج الإجمالي العالمي عام 1990 إلى 350% عام 2011. وقبل انهيار عام 2008، كان تجاوزَ ائتمان القطاع الخاص الأمريكي 300% من الناتج المحلي الإجمالي، إذا احتسبت ديون القطاع المالي.
كيف تتشكّل الفقاعات؟
انخفاضُ معدل الربح يشجِّعُ المضاربةَ، لأنّ الرأسماليين ما عادوا يستطيعون تحقيق ربح كافٍ من إنتاج السلع، فيحاولون جني الأموال عبر المراهنة في سوق الأسهم أو شراء مشتقّات مالية متنوعة. وتتشكل الفقاعات كما يلي: يبدأ الرأسماليون بشراء هذه الأسهم والأصول في الوقت نفسه تقريباً، مما يرفع أسعارها، فيصبح شراؤها مغرياً للجميع، وهذه بداية الفقاعات، التي شهدها تاريخ الرأسمالية مراراً وتكراراً منذ أزمة «جنون التوليب» في القرن 17، عندما حدثت فقاعةٌ اقتصادية كبيرة (بين عامَي 1635 و1637) من تزايد الطلب الترفيّ على بَصَلات أنواع نادرة من زهرة التوليب في هولندا، فحلَّقَتْ أسعارها لمستويات خيالية بسبب المضارَبة قبل أن تنهار فجأة.
وبالمثل، حدثت مضاربة في سوق الإسكان الأمريكي عامَي 2008-2009، وأتيح للعمّال خيار الاقتراض (الرهون العقارية) والإنفاق أكثر بكثير مما يكسبون (أكثر ممّا حدده الرأسماليون كرأس مالٍ متغيِّر)، ولكن عاجلاً أم آجلاً، تنفجر هذه الفقاعات عندما يتبيَّنُ للمستثمرين أنّ الأصول (سندات الرهن العقاري) لا تساوي ما يدفعونه مقابلها أو عندما يتعذّر سداد الرهون.
وهكذا فإنّ الأزمات تسبقها دائماً موجة من التفاؤل الخادع في الأسواق المالية، حيث توجد وفرة هائلة من رأس المال القابل للإقراض خلال فترات الازدهار، مما يؤدي إلى انخفاض أسعار الفائدة. وقد استنتج ماركس أنّ «حركة رأس المال النقدي (كما تتجلّى في الفائدة) هي نقيض رأس المال الإنتاجي»، وأصرّ على أنّ «اللحظة الحاسمة تكمن في حركة رأس المال الإنتاجي».
تفسير ماركسيّ لرسوم ترامب الجمركية
ذكر ماركس الاتجاهات الآتية لمعاكسة قانون انخفاض الربحية: 1- تكثيف استغلال العمّال مما يرفع معدل القيمة الزائدة. 2- التبخيس النسبي لعناصر رأس المال الثابت ممّا يخفّض التركيب العضوي لرأس المال. 3- تخفيض معدل الأجور إلى ما دون القيمة الطبيعية لقوة العمل ممّا يرفع معدل القيمة الزائدة. 4- أرباح التجارة الخارجية العائدة لصالح الاقتصاد الوطني. 5- الاستثمار في أسواق الأسهم والسندات لتحقيق مكاسب مالية (أرباح مِن رأس المال الوهمي).
وأشار مقالٌ للكاتب ديمتري بوجيداييف (بتاريخ 13 نيسان 2025) إلى أنّ «انسحاب رأس المال وراء حواجز جمركية» يُعَدُّ من آليات إدارة أزمة انخفاض معدل الربح أيضاً. فأوضَحَ الآتي:
من منظور ماركسي، لعبت الحمائية دوراً تاريخياً في التطور الرأسمالي عندما كانت التعريفات الجمركية أدواتٍ للتراكم الأوّلي والانطلاق الصناعي، إلّا أنّها كانت انتقائية ومؤقتة ومصمَّمة لحماية الصناعات الناشئة لتصبح تنافُسيّةً عالمياً.
على النقيض من ذلك، يفتقر استخدام ترامب للتعريفات الجمركية إلى أيّ مبرِّر تنموي. فهي غير موجَّهة نحو القطاعات الاستراتيجية، ولا ترتبط بالاستثمارات في الابتكار أو البنية التحتية. لم تعدْ الولايات المتحدة تملك القدرة ولا الرغبة في الإنتاج؛ فقطاع التصنيع الأمريكي يشهد انخفاضاً في التوظيف منذ ستينيّات القرن الماضي، ويعزى ذلك أساساً إلى انخفاض الربحية والنزوح التكنولوجي للعمالة، وليس إلى تحرير التجارة. فحتى لو زادت الصادرات بما يكفي لسد العجز التجاري، وهو أمر مستبعد للغاية، فلن يرفع ذلك من نسبة العمّال الصناعيين في الولايات المتحدة سوى بمقدار متواضع (8% أو 9%).
إذا أراد ترامب حقاً استعادة القاعدة الصناعية سيحتاج استثمارات ضخمة. لكن الشركات الأمريكية، باستثناء «السبع الكبرى» التكنولوجيّة، تواجه بالفعل انخفاضاً في الربحيّة، ومن غير المرجَّح أن تضخّ استثمارات جديدة - ربّما باستثناء الإنتاج العسكري المموَّل بعقود حكومية. في هذا السياق، ليست التعريفات الجمركية أداةً للتجديد، بل أحد أعراض عَجز المنظومة الرأسمالية العالمية. وهكذا لا تعكس الحمائية اليوم مجرَّد شعبوية غير متماسكة، بل محاوَلَةً لإدارة أزمة نظام عالمي لم يعد يُحقّق عوائد موثوقة لرأس المال.
في جذور هذه الأزمة، يكمن ما اكتشفه كارل ماركس بأنه ميل معدل الربح إلى الانخفاض. فمع زيادة استثمار الرأسماليين في الآلات والتكنولوجيا (رأس المال الثابت) وانخفاض استثمارهم نسبياً في العمالة (رأس المال المتغير)، ينخفض معدل الربح الإجمالي - حتى لو استمر حجم الربح في النمو مؤقتاً. تؤكّد الدراسات التجريبية التي أجراها مايكل روبرتس هذا الاتجاه في الاقتصاد الأمريكي. يُظهر تحليله انخفاضاً بنسبة 27% في معدل ربح الشركات غير المالية بين عامَي 1945 و2021، مع انخفاضات ملحوظة خلال فترات ارتفاع الاستثمار في رأس المال الثابت. هذا يُثبت صحة رؤية ماركس: السعي الرأسمالي لزيادة الإنتاجية يُقوّض الربحية في نهاية المطاف.
ولمواجهة هذه النزعة، يلجأ رأس المال إلى استراتيجيات مُختلفة: تكثيف استغلال العمالة، ونقل الإنتاج إلى أسواق عمل أرخص، والاستثمار في الابتكار التكنولوجي، وتضخيم فقاعات الأصول، والتراجع خلف حواجز حمائيّة.
تُمثّل رسوم ترامب الجمركية هذا التراجع. فرفع تكلفة السلع الأجنبية تخلق مساحة لحماية رأس المال الأمريكي من المُنافِسين الأكثر إنتاجية أو الأقل تكلفة. كما تُسهم الرسوم الجمركية في إلقاء عبء الأزمة على رؤوس الأموال المُنافِسة - وعلى رأسها الصين والاتحاد الأوروبي - على أمل استعادة المُنتِجين الأمريكيين لبعض التنافسية التي خسروها في عصر العولَمة المُفرطة. ليس الهدف هو «القومية الاقتصادية» في حدّ ذاتها، بل استعادة الربحيّة مؤقتاً إذا استطاعوا؛ ومع ذلك، فإنّ هذه الإجراءات لا تَحلّ التناقضات الكامنة وراء التراكم وأزمة الربحية؛ بل تُعيد توزيع آثارِها فحسْب. وفي غياب سياسةٍ صناعية شاملة، فإنّ مساحة التنفُّس التي تخلقها التعريفات الجمركية لا تُستَخدم لإنعاش الإنتاج، بل لدعم تداول رأس المال الوهمي.
* مصادر
كتابان لروبرتس وكارشيدي: «الرأسمالية في القرن 21»، 2022. و«العالم في أزمة، تحليل عالَمي لقانون ماركس في الربحيّة»، 2018. ومقال ديمتري بوجيداييف عن الرسوم الجمركية «تحليل ماركسي للحمائية والأزمة الرأسمالية العالَمية»، 13-4-2025.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1226