أساسيّات الفهم العلمي للأزمة الرأسمالية (2- الميل التاريخي لانخفاض الرّبحيّة)
توناك وسافران توناك وسافران

أساسيّات الفهم العلمي للأزمة الرأسمالية (2- الميل التاريخي لانخفاض الرّبحيّة)

يَعتبرُ ماركس الأزمةَ الاقتصاديةَ الرأسمالية مشكلةً لعملية تراكم رأس المال وحلّاً مؤقتاً لها. فجميع الأزمات الكبيرة تكشف التناقضات الكامنة في عملية التراكم، الذي بمجرّد أن يتباطَأ، تظهر على سطحه جميع أنواع العيوب والنقائص. من بينها أنّ وسائل الإنتاج لا تتعرَّض إلى الاهتلاك الفيزيائي فحسْب، بل وكذلك إلى ما يسمّيه ماركس «الاهتلاك المعنويّ»؛ عندما يضطرّ الرأسمالي إلى استبدالها، قبل انتهاء صلاحيتها الفيزيائية، بوسائلَ أحدث تكنولوجياً، تحت ضغط المنافسة في السوق المحلية أو الدولية، وهو أحد العوامل الهامّة في ميل معدّل الربح التاريخي نحو الانخفاض، الذي يعدّ مِن أهمّ قوانين الاقتصاد التي اكتشفها ماركس، ويتجلّى بقوّة في الأزمة الراهنة اليوم، بارزاً كأحد أهمّ الأسباب العميقة للخطر الذي يشكّله التقدّم التكنولوجي الصيني (كما في الذكاء الاصطناعي والأتمتة الروبوتيّة) على الولايات المتحدة وعلى تسريع وتعميق الأزمة الرأسمالية.

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

وفقاً لماركس، فإنّ أيّ أزمة كبرى تتطلب حلاً لمشكلتين؛ الأولى ضرورةُ اتخاذِ تدابيرَ لرفع معدَّل الربح العام، والثانية ضرورة التخلّص من وسائل الإنتاج المُصابَة بالاهتلاك المعنويّ، التي لم تعد قادرة على المنافسة، وباتت متخلّفة عن الرَّكب في تطوير قدراتٍ إنتاجية أعلى، وذلك لإفساح المجال لمجموعة جديدة من الآلات والمعدّات وأساليب الإنتاج الأحسن.

تتخذ آلية التخلُّص من القدرة الإنتاجية القديمة شكلاً سمّاه ماركس «انخفاض القيمة» أو الاهتلاك، بعكس «اكتساب القيمة» أيْ بعكس العملية التي يضيف بها الإنتاجُ قيمةً جديدة إلى موضوع العمل من خلال إنفاق العمل الحي عليه. وبما أنّ اكتساب القيمة يشير إلى زيادتها، فإنّ «انخفاض القيمة» يشير إلى خسارةٍ فيها، قد تصل إلى خسارةِ القيمة بأكملها. ومن خلال هذه العملية، يفقد رأس المال المتجسّد في المصنع أو الآلة أو المعدّات قيمتَه أو يتخلَّصُ منها ليصبح عديمَ القيمة، وبالتالي لا يعود صالحاً كوسيلةِ إنتاج.

وعلى مدى فترة زمنية طويلة يؤدّي الاستبدال التدريجي للعمل الحي وإحلال الآلات والأتمتة مكانَه، إلى انخفاض معدَّل الربح، وتكوين السبب الحقيقي وراء أزمة التراكم الرأسمالي.

إعادة الإنتاج البسيط والموسَّع

في تحليله لتراكم رأس المال، يُميّز ماركس إعادةَ الإنتاج البسيط بأنّها حالةٌ تستهلك فيها الطبقة الرأسمالية القيمةَ الزائدة بالكامل كإيرادات. ولأنّ هذا غير واقعي، فهو مجرد أداة استدلالية تُستخدم لتوضيح خصائص السيناريو الثاني الذي يحدث في الواقع وهو: إعادة الإنتاج الموسّع، والذي هو تراكم رأس المال نفسه؛ أي أنّ رأس المال يُوسِّع نطاقَ إنتاجِه باستخدام القيمةِ الزائدة لشراء وسائل إنتاج جديدة وتوظيف عمّالٍ جدد. تُدفَع لهؤلاء العمال الجدد أجورٌ تُستخدَم بعد ذلك لاستهلاك سلعٍ استهلاكية إضافيّة تفوقُ ما يستهلكُه العمَّال الموظَّفون قبلَ هذا التوسيع. فتراكم رأس المال (أو إعادة الإنتاج الموسَّع) سيخلق، في ظلّ الظروف العادية، طَلباً كافياً لاستهلاك القيمة الزائدة المُنتَجة.

قانون ميل معدّل الربح إلى الانخفاض

يُعدّ النقاش حول انخفاض معدّل الربح بالغَ الأهمية لدرجة أنّ ماركس وصفه بأنّه «أهم قانون في الاقتصاد السياسي الحديث». وكما الحال مع جميع القوانين العَلمية، فإنّ قانون مَيل معدّل الربح إلى الانخفاض هو «قانون مَيْل»؛ أي إنّ القانون نفسه يخضع باستمرار للتعديل ويشتدّ أو يضعف تأثيره مؤقّتاً، بل وقد يتوقّف مؤقتاً تحت تأثير ميولٍ أخرى (قوانين أخرى) تُعاكِسهُ. ومع ذلك، فإنّ هذا القانون يملك قوّة الاتجاه السائد، بحيث أنّه عاجلاً أم آجلاً، سيؤكّد نفسها كقَدَرٍ لا رادَّ لَه.

يمكن تفسير هذا القانون على مستويَين مختلِفَين. التفسير الأول، الوارد في المجلد الأول من كتاب رأس المال، يستند إلى دراسة العلاقة بين رأس المال والعمل المأجور، أو بين الرأسمالي والعامل بأجر، بمعزلٍ عن عوامل التعقيد الأخرى. أمّا التفسير الثاني، الوارد بشكل رئيسي في المجلد الثالث، فيندرج ضمن نطاق المنافسة بين رؤوس الأموال.

المستوى الأول لقانون انخفاض الرّبحية

يتمحور هذا المستوى حول إنتاج القيمة الزائدة النسبية. يميز ماركس بين أسلوبين لإنتاج القيمة الزائدة: المطلق والنسبي. الزيادة المطلقة بالقيمة الزائدة لا تتطلب أيّ تغييرات في تقنيات أو أساليب الإنتاج، بل تَعتمد ببساطة على إطالة يومِ العمل، أمّا زيادتها النسبية، فتعتمد في أوضح صورها وأكثرها منهجية على التغييرات في الأساس التقني وأساليب الإنتاج، أيْ رفع القدرة الإنتاجية للعمل عبر تطوير أبحاث علمية جديدة، واكتشاف مواد جديدة، وتطبيق الاكتشافات العلمية، واستحداث أساليب إنتاج جديدة... ومع انتشار ارتفاع القدرة الإنتاجية على نطاق واسع في جميع أنحاء الاقتصاد، يصبح مقدار العمل الضروري لإنتاج كل سلعة متناقصاً باستمرار. ومن بين هذه السلع، بالطبع، كمية السلع الاستهلاكية التي يستهلكها العامل وأسرته، والتي مع انخفاض أسعارها، تتناقص كمية العمل الضروري لإعادة إنتاج كمية القيمة المعادِلة لأجر العامل، وبالتالي إذا لم يتغير طول يوم العمل، سيقضي العاملُ جزءاً أطول من يوم العمل هذا في إنتاج القيمة الزائدة. بهذه الطريقة، يستولي الرأسمالي على قيمة زائدة أكبر مما سبق.

هذه العملية هي الأساس العِلمي لتأكيد ماركس، الذي طرَحَه باكراً في البيان الشيوعي، أنّ أصحاب رأس المال «لا يستطيعون البقاء دون إحداث ثورة مستمرة في أدوات الإنتاج» سعياً وراء قيمة زائدة أعلى، وبالتالي ربح أعلى.

ومع ذلك، يخلق هذا تناقضاً بالنسبة لرأس المال. ففي معظم الأحيان، ينطوي التقدُّم في التقنيات على دمج آلاتٍ جديدة وموادَّ أكثر تكلفة في عملية الإنتاج. وهكذا، يزداد رأس المال الثابت (أي المَصنَع والآلات والمعدّات الأخرى والعناصر المساعدة كالطّاقة وغيرها) مقارنةً بالعمل الحي، وهذا التناسب بينهما هو ما يُطلِق عليه ماركس التركيبَ التقني والتركيبَ العضوي لرأس المال، أيْ نسبة رأس المال الثابت إلى العمل الحي. ولمّا كان، بحسب ماركس، مصدرُ كلّ قيمة، وبالتالي كلّ قيمة زائدة، هو العمل الحي، فإنّ رأس المال عندما يسعى إلى زيادة القيمة الزائدة، فإنه يُقصِي من عملية الإنتاج مصدرَ القيمة نفسِه، أكثر فأكثر، أيْ العمل الحيّ.

إنّ معدَّل الربح يساوي نسبة القيمة الزائدة (بَسط الكَسر) إلى إجمالي رأس المال (مَقام الكَسر). ولأنّ رأس المال الثابت (الآلات، إلخ) يزداد بوتيرة أسرع من وتيرة زيادة العمل الحي، ولأنّ أيّ كمية مُحدَّدة من العمل الحي لا يُمكنها إلّا أنْ تُنتجَ كميةً مُحدَّدة من القيمة الزائدة، فإنّ تزايد مَقامَ الكَسر (في النَّسبة) يكون أسرع من تزايد البسط، ممّا يُؤدّي إلى انخفاض معدِّل الربح. و«التسابق» بين البسط والمقام يُحسَم (في فترةٍ زمنية محدود) بناءً على أيّهما ينمو أسرع خلال تلك الفترة: إنتاجية العَمل أم التركيب العضوي لرأس المال. ولكن مع ازدياد الاستثمار اللازم لاستخراج قيمة زائدة إضافية مع تطور التكنولوجيا تاريخياً، سيتغلَّب، في نهاية المطاف، التركيب العضوي على الاتجاه المعاكس، وسيبدأ معدَّل الربح في الانخفاض.

المستوى الثاني لقانون انخفاض الرّبحية

ينبع التفسير الثاني ليس من منظور علاقات الإنتاج بين رأس المال والعمل، بل من منظور ديناميكيات المنافَسة بين رؤوس الأموال. هناك عوامل عديدة ومختلفة تُحدِّد من سينتصر مِن بين المتنافِسين. ما يهمّنا عملياً على المدى الطويل هنا هو المنافسة السِّعرية القائمة على التغيير التقني. فمن أجل التفوُّق على منافسيها، ستبتكر الشركة تقنيّةً أو طريقةَ إنتاجٍ جديدة تزيد إنتاجيّة قوّتها العاملة. هذا يعني أنّ القيمة الفردية لسلع الشركة (أو خدماتها) ستكلّف كمية أقل من العمالة مقارنة بالسلع (أو الخدمات) المماثلة لمنافسيها، ممّا يسمح لها بخفض سعرها. وهذا يضع منافسي الشركة في مأزق: إمّا أنْ يستمرّوا في فرض سعرهم السابق نفسه، ممّا سيؤدي إلى هجرة المشترين إلى منافسهم الذي يمكنه تقديم السلعة نفسها بالجودة نفسها (أو ربما أجود) بسعرٍ أقل، أو سيتعيّن عليهم خفض أسعارهم بطريقة مماثلة، ما يعني تكبّدَهم لخسائر. لذلك، على المدى الطويل، لا يوجد مخرج للشركات الأخرى في صراع البقاء سوى اعتماد التقنية نفسها (أو حتى أفضل منها إذا توفّرت). وبمجرد تحقيق ذلك، يمكن لجميع الشركات خفض أسعارها إلى المستوى نفسه.

ما عواقب هذا التقدّم في القوى الإنتاجية؟

هذه العملية تضطرّ جميع الشركات إلى زيادة الإنفاق على السلع الرأسمالية (الآلات، والمعدّات، والمواد الجديدة، إلخ) مع بقاء مستوى الأرباح بالمقارنة مع التكاليف الإضافية اللّازمة للتحديث. والنتيجة، على المدى الطويل، هي انخفاض معدّل الربح.

بالنسبة للرأسمالي، فإنّ هدف الإنتاج هو الحصول على أعلى قيمة زائدة (وبالتالي أعلى ربح) من مقدار معيَّن من رأس المال في ظل ظروف معيَّنة. وبالتالي، فإنّ انخفاض معدل الربح سيجعل الرأسماليين أقلّ رغبة في استثمار رأس مالٍ جديد (أي في مراكمة رأس المال) بالوتيرة السابقة نفسها. وهذا يعني الافتقار إلى قيمةٍ زائدةٍ كافية لمواصلة إعادة الإنتاج المُوسَّع. وهكذا كشَف لنا ماركس أحدَ أسرار تباطؤ الاقتصاد الرأسمالي ووقوعه في الأزمات. (يتبع في الجزء الثالث).

معلومات إضافية

العدد رقم:
1225