أساسيّات الفهم العلمي للأزمة الرأسمالية (1- مقدّمة)
مجموعة من الكتّاب* مجموعة من الكتّاب*

أساسيّات الفهم العلمي للأزمة الرأسمالية (1- مقدّمة)

يصف بعض الباحثين الماركسيين المرحلةَ التاريخية الحالية التي تمرّ بها الرأسمالية العالمية منذ 2008 حتى اليوم بأنها «الركود العظيم الثالث». سنحاول في سلسلة المقالات الآتية تقديم عرضٍ لأساسيات النظرية الماركسية حول الأزمات الاقتصادية الرأسمالية، نظراً للفائدة العِلمية والاقتصادية السياسية للتذكير بها، خصوصاً مع الطور الجديد الذي يبدو أنّ الأزمة تدخل فيه الآن، ولمّا تتكشّف بَعدُ زلازلُه الأعظم القادمة، والتي لا يشكّل إعلان الرئيس الأمريكي ترامب حرباً تجارية جديدة على العالَم، سوى إشارة لبدايته فقط، كأحد تطورات المأزق التاريخي لتراجع أمريكا خصوصاً، وقوى الإمبريالية عموماً، وما يتوازى معه من توسّعٍ لآفاقٍ تاريخية سبق أنْ انفتحت بالفعل منذ سنوات أمام قوى العالَم الجديد الصاعدة، وعلى رأسها الصين وكتلة بريكس.

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

في تشرين الأول 2023 نشر «معهد ترايكونتيننتال للأبحاث الاجتماعية»، ذو التوجّه الماركسي (بإدارة الناشط الهندي فيجاي براشاد وزملائه)، كُتيّباً أعدَّه اثنان من الباحثين في الاقتصاد السياسي (أرطغرل أحمد توناك، وسونغور سافران)، وتضمّن عرضاً لأبرز الأسس العلمية للنظرية الماركسية حول الأزمات الرأسمالية والركود الاقتصادي العالمي. اخترنا منه الآتي.

الهدف الطبقي والسياسي للعلم الماركسي بالأزمات

إنّ انعدام العدالة الذي تُنتجه الرأسمالية حتماً قد خلق عالماً يمتلك فيه أغنى 2153 مليارديراً ثروةً تفوق ما يمتلكه أفقر 4.6 مليار شخص، والذين يُشكلون 60% من سكان العالم. [أوكسفام 2020، والأرقام ستكون أسوأ اليوم بالتأكيد]. هذان الاتجاهان ليسا استثناءً اقتصر على جائحة كوفيد-19 وتأثيراتها، فهما مستمرّان منذ سنوات وعقود، مُتشابكان بفعل قوانين الرأسمالية وأزماتها.

نسعى إلى تسليط الضوء على الأزمة العميقة التي يمرّ بها الاقتصاد العالمي، والتي تتكشف منذ أكثر من عقد. إن شرح الأزمة ليس مجرد تمرين فارِغ للتباهي بالبراعة التقنية للاقتصاديين المحترفين، بل هو ضرورة تتجاوز المظاهر السطحية لاكتشاف جوهر العملية برمتها. بهذه الطريقة، يُمكننا تسليط الضوء على مسار نضال الطبقة العاملة والشعوب المُضطهَدة في جميع بلدان العالم، في وجه أمواج الفقر والبؤس. وفي سعينا لتقديم نتائج ملموسة للبروليتاريا والمُعذَّبين في الأرض، من المهم شرح التناقضات الكامنة في الرأسمالية التي تُؤدِّي إلى هذه الأزمات. فالتفسيرات الخاطئة من شأنها تضليل الجماهير والإضرار بنضالاتهم.

منذ 2008: «ركود» أم «كساد»؟

تاريخياً، شهدت الرأسمالية أنواعاً مُختلفة من الأزمات، مُتفاوتة الشدّة والمُدّة. وأكثرها شيوعاً يحدث عادةً مرة واحدة تقريباً كل عَقد، وقد دُرست ويُشار إليها في الأدبيات المُتخصصة باسم «دورات الأعمال/دورات البزنس». وعادةً ما تكون ذروة دورة الأعمال هي «الركود/recession»، وهي فترة وجيزة ينكمش خلالها الاقتصاد. تُعرَّف فترات الركود (في الأدبيات البرجوازية تقليدياً) بأنها فترات قصيرة نسبياً تستمر لأكثر من رُبعين (ستّة أشهر)، وتُحدَّد بمتغيِّر اقتصاديٍّ واحد، هو معدَّل النمو، عندما يدخل هذا الأخير في المنطقة السلبية - أي عندما ينكمش الاقتصاد. عادةً ما يتم التغلب على هذا النوع من الأزمات الركوديّة من خلال تعديل قوى السوق، وهو ما ساهمت فيه إلى حد ما السياسات الحكومية منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

أمّا «الكساد/depression» فهو نوع مختلف من الأزمات في تاريخ الرأسمالية. إنّه يستمر لفترة أطول بكثير، قد تصل لعقدٍ من الزمن، وأحياناً لعدة عقود. لا يمكن إدارته والتغلب عليه من خلال التعديل التقليدي لمتغيِّرات السوق، ويتطلب اضطرابات جذرية ليس فقط في المجال الاقتصادي، بل أيضاً في المجالات السياسية والأيديولوجية، وحتى العسكرية (الحروب). عندما كان الكساد يتكشف على مستوى الرأسمالية العالمية، كان العرف، حتى الآن، هو تسميتُه «كساداً كبيراً/great depression». وقعت أول أزمة من هذا النوع، والتي عُرفت آنذاك بـ«الكساد الطويل»، في نهاية القرن التاسع عشر، تقريباً بين عامي 1873 و1896. أمّا الثانية، فهي «الكساد الكبير» الأشهر، الذي بدأ بانهيار وول ستريت عام 1929 وانتشر على نطاق واسع طوال ثلاثينيّات القرن العشرين، واستمرّ في العديد من البلدان، وخاصةً في أوروبا، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. ويرى العديد من الاقتصاديين الماركسيّين، بمن فيهم مؤلِّفو هذا النصّ، أنَّ الأزمة المطوَّلة والعميقة التي نمرُّ بها منذ عام 2008 وحتى الآن هي أيضاً كسادٌ كبير.

في بداية الأزمة عام 2008 استُخدِم اسم «الأزمة المالية العالمية» حصرياً لوصف الأزمة العميقة في الاقتصاد العالمي التي أطلق شرارتها انهيار ليمان براذرز (أحد بنوك الاستثمار الكبرى في وول ستريت). ولكن سرعان ما تبيَّن خطأ هذه التسمية، عندما انكشف أنّ الأزمة لم تكن مقتصرةً على مجال التمويل، بل امتدت إلى ما نسمّيه «الاقتصاد الحقيقي» أيْ إلى مجال الإنتاج... ثم بدأت الدوائر الحاكمة للاقتصاد الرأسمالي والحكومات في استخدام المصطلح الجديد «الركود الكبير» (recession) وليس الكساد (depression)، وتنسَب تسمية الأزمة بالركود الكبير (great recession) إلى الفرنسي دومينيك شتراوس كان (DSK كما كان يُعرف في الدوائر المالية والحكومية)، المدير الإداري لصندوق النقد الدولي آنذاك. ومع ذلك، اعترف كثيرون من داخل المؤسسات البرجوازية نفسها بأنّها «أزمة مالية تحدث مرة واحدة كل قرن»، في إشارة واضحة ومقارنة بالكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين، ومنهم آلان غرينسبان، الذي شغل منصب رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لما يقرب من عقدين من الزمن. وهكذا، فإنّ من يقتصرون على تسمية الأزمة منذ ذلك الحين بأنها مجرّد «ركود» أو حتى «ركود كبير» إنما يريدون التهرّب من ذكر الكلمة المرعبة (d-word) الحقيقية وهي «الكساد».

كانت هذه مجرد مقدمة لهذه السلسلة من المقالات حول الأزمة. في الحلقة القادمة، سنتعمق في نظرية ماركس للأزمة وتشديده على المكانة المركزية للأزمات في الحركة التاريخية لنمط الإنتاج الرأسمالي، وهو أحد أبرز أسباب تفوُّق التحليل الماركسي للرأسمالية على النظريات الاقتصادية البرجوازية السائدة. وكما سنرى، لم يُقدّر ماركس الأزمات فحسب، وهي ظاهرة شائعة في الرأسمالية، بل قدّم تحليلاً شاملاً لها، باعتبارها المحور الذي يتوقف عليه مصير الاقتصاد والمجتمع الرأسماليَّين.

* أرطغرل أحمد توناك: بروفسور في الاقتصاد السياسي، وخاصةً الماركسي، وتاريخ الفكر الاقتصادي، باحث وأستاذ جامعي في عدة جامعات تركية ودولية، من كتبه الحديثة 2024: «في مسارات رأس مال ماركس: نقاشات في الاقتصاد السياسي الماركسي ودروس لرأسمالية القرن الحادي والعشرين». سونغور سافران: مدرّس في جامعة أوكان إسطنبول ومحرّر مجلة «الماركسية الثورية».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1224